بول فاليري… عميقاً من الفكرة إلى القصيدة

شكّلت قصيدة: (إلهة القدر الشابة  الربيع) صورة حية لشخصية الشاعر  بول فاليري، وكشفت عن نمط فريد في الحركة الشعرية الفرنسية، وتركت ظلالها المحيرة والغامضة والمثيرة لدى قراء هذا الشاعر حيثما كانوا. وعلى الرغم من كل ما مر في القصيدة من رموز  وتباينات، فقد كونت لدى المتلقي الحالات الخارجية والداخلية جميعها للشاعر فاليري. وبرأيي، فإن مفتاح القصيدة الأهم.. يكمن في  الربيع / الرمز  دلالة على حيوية الفصول فيه، تلك الحيوية المطلقة من خلال تلك الخضرة المدهشة في الطبيعة، والحيوية في الحياة، ما جعلنا نقف هنا على إنسانية الشعر، وأنسنة أشياء الحياة الجميلة، حيث يأتي الربيع ليكسر أختام الينابيع، ولعل أجمل ما قصده الشاعر دلالة  في كسر أختام الينابيع، ذاك الرمز المدهش، والأعمق، في آن واحد، الذي يتوزع بين الوجودي والإنساني، ويتجلى هذا في تلك الخفقات والإحباطات التي تتشكل امتداداً بين: دلالات المعاني إنسانياً، ودلالات المعاني وجودياً، ويأتي الربيع ليفض أختامها، بما يتمثل من اخضرار الوجود، واخضرار الذات، فيشكلان عنصراً صوفياً واحداً في الحياة! هذه الحالة هل عاشها فاليري رؤية خفية عما يكنّى بوحدة الوجود، التي أغرق الصوفيون في تحليلها، وتأويلها، وفك طلاسمها، وغيابهاعن محسوس الأشياء والموجودات، إلى انجلائها، والكشف عن خفاياها، وانفتاح أسرارها أمام القلة النادرة من صفوة أولئك الصوفيين؟ وهذا يقودنا بالتالي إلى التساؤل: عن انفضاض أختام الينابيع، وانفضاض مفاتيح الأستار، والأسرار، أيمكن أن يكون مدلولاً متشابهاً ومتطابقاً، من حيث الرؤية بين فاليري من ناحية، والصوفيين، من ناحية أخرى؟!

وهذا يقودنا إلى جواب من المتصور اعتقاده، أن ثمة فرقاً قائماً بين وجهتي النظر لدى فاليري والصوفية ربما هو: فلسفة الباطن عند الصوفيين وتصوراتهم، وعمق دلالة الأشياء لديهم، وفلسفة الظاهر وغموضه عند فاليري، وشعراء الغموض والعدمية، حيث تأويل الأمور بظواهرها عند أولئك الرواد، يقول: (ما من شك في أن تجارب العذاب والألم، والكآبة والعدمية التي تغنى بها الشعراء  كاذبين، أو صادقين  قد أطلقت كثيراً من طاقاتهم الكامنة، وأدت للشعر خدمات جليلة، فالشعر هو اللغة الأولى، أو اللغة/ الأم للبشرية، اللغة الشاملة للذات الشاملة التي لا تعرف حدوداً فاصلة بين المواد والموضوعات.

 ولعل الرؤية تكمن بعيداً في آرائه وأفكاره، على مجمل الشعر الأوربي، وخاصة الفرنسي منه، فبرأيه: الفوارق عموماً في الشعر تذوب تماماً، ولا تعرف كذلك الحدود الفاصلة بين الحماس الديني والحماس الشعري)، وقد استطاع الشعر الرومانتيكي في فرنسا أن يعمق التجارب الباطنة ويلونها، ويتأثر تأثراً خلاقاً بالأجواء الغربية في بلاد الجنوب، وبلاد الشرق، ويثبت قدرته الفائقة على التمكن من الصنعة، ويبدع أجمل الشعر، وأرقه في الحب، ووصف الطبيعة.

وعندما نغوص في عالم فاليري الشعري، نحسّ يقيناً بأن قصيدته التي انتهجها بعمق الإيحاء، واستلهام ما وراء المحسوس، إنما هي قصيدة تقع بين خطي اليقظة والحلم، والوعي واللاوعي، والرمز والإيحاء، وتقع بين سلطتين غاشمتين، الأولى: سلطة الفكر والعقل، التي تتلمس ما حولها، وما بعدها، وما فوق تصوراتها وإحساساتها بعين البصيرة والتأويل، وكذلك استنتاج فرضيات للظواهر، ووضع التفسيرات المنطقية لها، والنفاذ في عمق الكون والأشياء، ووضع الرموز والدلالات لها بما يتوافق وعقل الشاعر المبدع، ووفق القناعات التي تشكل الضوابط المنطقية لكل ما يريد أن يصل إليه الشاعر.

والسلطة الثانية: سلطة النوازع والعواطف البشرية، وما يتأتى عن القلب والمشاعر، وتلك تخضع لموازين، إن اختلفت في منهجيتها، ومنطقها عن سلطة العقل، إنما تحاول أن تصعد من هواجسها لتصبح هي الأخرى قريبة من سلطة العقل، والحكمة المنشودة:

 نامي، يا حكمتي، نامي.

شكلي لنفسك هذا الغياب،

هبي نفسك حية للأفاعي،

للكنوز.

نامي أبداً.. اهبطي،

نامي على الدوام!

اهبطي، نامي.. نامي.

يشير د. مكاوي إلى هذا كله بقوله: فهي تصدق على آلهة القدر التي تتمزق بين السماء والأرض، وتريد أن تبقى على الأرض، حيث قضت عليها الأفعى، وهي تصدق كذلك على الشاعر الذي سلم بما كان، وسلم صراعه مع الوعي اليقظ، أو تخلى عنه، ويريد أن يستسلم لتجربة الحلم المضطربة.

 وباعتقادي، فإن فاليري، وغالبية شعراء الغرب تتنازعهم مشكلتان خطيرتان للغاية على متداد حياتهم، وشعرهم: عدمية الحياة، ولا جدواها، وتفاهتها المطلقة لديهم،يقابلها مادية بحتة، هي الأخرى مغرقة في تفاهتها، ولا جدواها وعدميتها المترفة، مع القليل الإنساني الجميل ولا بد منه.

ومع ذلك فثمة وقفة عند شعر فاليري تثير فينا بذرة التشوق للخلق والإبداع. لتطول سنبلة الشعر، وتغوص عميقاً وبعيداً في آفاقها الرحبة، المطلقة، بعد أن تكون مفاتيح الينابيع قد فضت أختام ينابيعها، وانساب شلال الشعر متدفقاً في أنهار الحياة الصاخبة، التي يكمن فيها سر الجمال والجلال، سر الوجود والخلود، سر تلك التضادات التي تكشف عن حقائق الأشياء والوجود.

العدد 1140 - 22/01/2025