محاكمة الرأسمالية

 يرفع في وجه صعود الاشتراكية اليوم ما يسمى (الكتاب الأسود للشيوعية).

فبعيد تفكك الاتحاد السوفياتي وانتهاء التجربة الاشتراكية في أوربا الشرقية، تعالت أصوات تحكم بانتهاء الماركسية والاشتراكية إلى الأبد، وأصدر فرانسيس فوكوياما حكمه التاريخي في كتابه (نهاية التاريخ والإنسان الأخير)، الذي ترددت أصداؤه لسنوات طويلة. هذا أمر يعرفه الجميع. لكن في الوقت نفسه بدأ يعلو الحديث، وليس لأول مرة، حول جرائم الشيوعية، وصدر في 1997 هذا (الكتاب الأسود)، الذي اتهم الأنظمة الشيوعية حول العالم بقتل نحو 100 مليون إنسان. على الرغم من ضحالة المنهج التاريخي لهذا الكتاب الذي انتقده الكثيرون من المفكرين والأكاديميين لعدم دقته وقفزه فوق الحقائق بخفة، إلا أن هذه المزاعم علقت في عقول البعض وتستعمل كجزء من البروباغاندا ضد الاشتراكية اليوم.

الرد على (الكتاب الأسود) سهل جداً. يكفي تعداد ضحايا الرأسمالية نفسها، انطلاقاً من بدايات الراسمالية في التراكم الأولي ونزع ملكية الأراضي في إنكلترا وقمع ثورات 1848 وكومونة باريس، مروراً بالنازية وبالاستعمار والحروب الإمبريالية في أمريكا اللاتينية وإفريقيا وآسيا، وصولاً إلى ضحايا الانقلابات اليمينية في القرن العشرين، من إسبانيا إلى إندونيسيا، ففي الأخيرة قتل أكثر من نصف مليون شخص بتهمة انتمائهم إلى الحزب الشيوعي الإندونيسي، بعد انقلاب سوهارتو في 1965.

كذلك قام البعض باحتساب ما كان يمكن تفاديه من حالات موت لو كان الاقتصاد أكثر عدالة. مثلاً، احتسب أمارتيا سن، الاقتصادي الحائز جائزة نوبل، أنه لو كانت الهند تمتلك اقتصاداً يكون توزيع الدخل فيه شبيهاً بمثيله في الصين الشيوعية، أي أن يكون أكثر مساواة من ناحية توزع الموارد الطبية والصحية في الأرياف والتوزيع العام للغذاء، لكانت الهند قد تجنبت موت أكثر من 4 ملايين شخص سنوياً، وهم الذين يموتون كل يوم بصمت. لو احتسب هذا الرقم على مدى جيل زمني واحد لفاق هذا العدد (جرائم الشيوعية) المزعومة! ويقول أمارتيا سن في هذا الإطار:

(كل ثماني سنوات، تملأ الهند خزائنها بالهياكل العظمية بما يعادل ما وضعته الصين هناك خلال سنوات الخزي بين 1958 و1961). وسنوات الخزي هذه هي إشارة إلى المجاعة التي ضربت الصين بين 1958 و1961. في هذا المجال، فإن الرأسمالية ونظامها العالمي كانا مسؤولين عن تفاقم المجاعات خلال (مجاعة البطاطا) في إيرلندا بين 1842 و،1852 التي قتلت مليون إنسان، وفي بعض دول إفريقيا في القرن العشرين، التي يعتقد الكثيرون أنها (طبيعية) وناتجة من ديناميكية مالتوسية للتناقض بين النمو السكاني ونمو الغذاء.

اليوم إثيوبيا تواجه مرة أخرى شبح المجاعة التي في القرن العشرين هزّت ضمير العالم، وكان وراءها في السبعينيات سوء توزيع الأراضي ووسائل الإنتاج ورغبة النظام الإقطاعي الإمبراطوري في تأديب قطاعات من الشعب الإثيوبي. لكن معضلة إثيوبيا كغيرها من البلدان التي تعرضت للاستعمار المباشر أو الاستغلال الإمبريالي هي أن الكثير من محنها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية نابعة إلى حد كبير من هذا الإرث التي تركته الرأسمالية على الصعيد العالمي.

اليوم افتتحت في 5 أيار الحالي (محكمة الرأسمالية)  في فيينا، وهي تتناول قضايا أو دعاوى يرفعها الناس فرادى أو جماعات ضد الرأسمالية، ومن ثم يعين محامي ادعاء ودفاع. إحدى القضايا المرفوعة تتناول إفريقيا، وبالتحديد إثيوبيا. يقول المدعي: (إن الرأسمالية هي المسبب بالتنافس حول الموارد بين الدول الاستعمارية الأوربية)، التي أدت في حالة إثيوبيا إلى احتلالها مرتين من قبل إيطاليا. وفي المرة الثانية في ،1935 يقول الادعاء: (إن نتيجة هذا الاحتلال كانت موت مئات الآلاف، واستعمال الغاز السام والتدمير الكامل لاقتصاد إثيوبيا). في التاريخ الأكثر قرباً، وبحسب تقرير اللجنة الاقتصادية لإفريقيا، التابع للأمم المتحدة، فإن (السياسات المفروضة من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي أدت إلى التحرير الاقتصادي مع تأثيرات كارثية، بما فيها الحد من الإنفاق على الصحة والتعليم والخدمات العامة). في هذا الإطار، كتب روس باكلي في مجلة (وورلد بوليسي جورنال): (بحسب اليونيسف، فإن 500 ألف طفل دون الخامسة ماتوا كل سنة في إفريقيا وأمريكا اللاتينية في أواخر الثمانينيات، بسبب أزمة الديون ومعالجتها من قبل صندوق النقد الدولي. هذه السياسات تضمنت رفع الدعم عن السلع الغذائية الأساسية وزيادة الضرائب وتخفيضات كبيرة في الإنفاق على الصحة والتعليم والخدمات العامة). إضافة إلى ذلك، يهرّب الرأسماليون والفاسدون الأفارقة نحو 150 مليار دولار سنوياً إلى الخارج، أي ما يعادل 25% من الناتج المحلي، ما يُسهم في رفع عدد الضحايا بنحو كبير. هذا بعض ممّا يمكن وضعه في كتاب أشد سواداً للرأسمالية.

إن الرأسمالية ليست نظاماً أبدياً وفعالاً لحشد الموارد، كما يدّعي المدافعون عنها. فالرأسمالية قائمة على الحفاظ على معدلات الربح، وإيجاد أسواق لتصريف سلعها، وأسواق للعمالة الرخيصة، والدفاع بشراسة عن المصالح الاقتصادية لطبقات الملاك في الاقتصاد. وهذا تطلّب حروباً مباشرة وحروباً أهلية وقمعاً متوحشاً ذهب ضحيتها عشرات الملايين. وتطلّب أيضاً عدم مساواة في الدخل والثروة، وتحكّم الأسواق بكل نواحي الحياة، بما فيها الصحة والتعليم والغذاء الأساسي. واللامساواة وتحكّم الأسواق، في بعض الأحيان والأمكنة، يقتلان، ولكن يقتلان بصمت وببطء. ويظهر هذا القتل في بعض التقديرات والإحصاءات، التي تقرأ لاحقاً من دون أن تهزّ ضمير العالم إلا الذين بدؤوا من جديد ينهضون ويقولون: كلا! في أمريكا وأمريكا اللاتينية وأوربا والعالم العربي وكل أنحاء العالم، وذلك من أجل عالم أفضل لا يموت الأطفال فيه بصمت ولا في حروب تشتعل من أجل الدفاع عن ملكية وثروة.

غسان ديبة

(الأخبار)

العدد 1140 - 22/01/2025