هكذا تولد القصيدة

أرأيتِ كيف تنهمر القصيدة كما ينهمر الندى على الأعشاب؟! وكيف يصبح الحبر مداد الأفكار، والدم صخب الأنهار، والريح صدى النايات الموجعة الحزينة التي تشبع رغبتنا في الحزن، ودمعنا على الهطول، ومواويلنا على الغناء، هكذا نحن: على هذا ولدنا، وعلى هذا نموت،وعلى هذا نبعث!وكأننا فطرنا على ما يُبكي، وسكرنا على مايوجع، وتلذّذنا بالعذابات تماماً كتلك المواقد التي تتلذذ بجمرها، وهو يحترق، على سمر سمار تلك المواقد، وهي تبث عاشقي ليالي سمرها تلك الرعشات الحالمة الحزينة بين: التذكر والذكريات! في مثل هذا وغيره تلد مساءات الندى قصائدها الموجعة لدرجة البكاء، ومغنى ناياتها الباكية، وهمسات عشاقها، العابرين! يمر الشاعر على الحقل، فيرى في الفجر ذلك الفلاح الذي يخط بالمحراث خطوط القصيدة الأولى، يأتي الشاعر فيستكملها، ويمر على خط النار في ليالي الزمهرير، فيشهد براعة كاميرا قلبه ذلك الحارس الأمين للتراب: يراه يداً على زناد البندقية، ويداً تضم التراب، وتحرسه بضراوة عشقها له، ويطوف في عيون الساهرين هناك عند سياجات الوطن، ودمعة البرد والوجد تقفز في من تلك العيون المبلة بالعشق والدمع لتحفر مجرى قصيدتها في كل ذرة تراب هناك، لتنهض القصيدة رائعة في فم مغنيها، ووجدانه، كما تنهض قصائد حراس الأرض على امتداد شغف تلك السياجات! هكذا تلد القصيدة في وجدان عاشقها العربي، كما تلد الأرض عشاقها، والعصافير ثرثراتها، والنايات مغناها، والأنهار صخبها المحبب، والطفولة شغبها وصخبها الجميل! أو لسنا بكل هذا أكثر إنسانية ممن يشاغبون علينا: بإنسانيتهم المزورة.. المشبوهة؟!

أرأيت كيف يأخذنا الوله حد الارتباك، وتأخذنا القطيعة حد الفاجعة، ومع كل تضاداتنا الغرائيبية، فإننا على درجة حرارة آثمة، وجميلة، ومستحيلة، فبضحكة نغفر، ولدمعة نبكي، ولنسمة تذيبنا، فنذوب، وننزف الشعر بضراوة هبوبه، ثم نعود فنلعقه بلذة قاتلة، كما تلعق قطط الشوارع دمها النازف منها إثر ضربة ما.. فتحسبه ألذ وجبة تتناولها في حياتها، ولا تدري أن تلك الوجبة هي عشاؤها الأخير؟! كم نحن طيبون، وبلهاء، ورائعون، وننسى خديعة المكر بضحكة صفراء ماكرة، لأن في داخلنا طيبة تحول صفرة المكر لعشب ندي أخضر، لأننا على هذا أمطرنا، وعليه نمضي عمرنا بين الغفران والقصيدة؟! مشكلتنا أننا طيبون، ووادعون، ورائعون لدرجة المستحيل، ولا نتقن إلا شدّ زناد الفم عند العناق! لا نتقن إلا شدّ زناد القصيدة، نعيرها دمنا لتنسكب غناء مدوياً، جميلاً، ونعيرها مشاعرنا، لتسكن فينا، ونعيرها دموعنا لتهطل عنا أغاني عذبة الهديل، ونعيرها قلوبنا، تحملنا من خلالها ذكرى في نبضها، ونحن راحلون باتجاه الغياب، وفلسطين، والجولان، ومواطن أخرى نموت لتحيا بجلالها، وجمالها في بحبوبة عيش هانئ ورغيد ووادع.

أرأيت كم نحن طيبون ورائعون، يذبحنا الموّال، وترقى بنا.. الميجنا والعتابا إلى أوج نشوتنا، ويذهب بنا جمر المواقد إلى أعلى أعالي المتعة، ونسكب الشعر بمزاجية حادة قاتلة، ونحن مفطورون على ذلك، بدءاً من المحراث يحفر في الأرض مغناه الخالد، ودمعة حراس الأرض التي تحفز مجرى شعرها بين منزلتي الوجود والخلود عبر حفنة من التراب رائعة وخالدة، ثم نقف مشدوهين وحائرين ببلاهة: أنحن أبناء الخديعة والدم؟

بغتة.. نجد أنفسنا خارج كينونة الغناء والقصيدة الساحرة، الآسرة، في خضم كابوس لا شبيه له في قاموس الحياة، ولا مرارة مثله في تاريخ الوجود، ولا عاشت أمة في الدهر، ما نعيشه، ورغم ذلك سنظل نضحك ونغني، ونكتب الشعر ونغني، ونبكي، ونغني، ونتعانق عناقاً حاراً، ونغني، فعازفو الناي، وعشاق التراب لا يفقهون غير هذا، قدراً في الدهر عابراً:

بعذوبة، ونداوة، وطراوة وولهِ قاتلٍ نديّ، وما يمكن أن يكون غير ذلك، فإنه ذاهب في عاصفة عابرة تحمل كل عابر معها، وتمضي، ولا يبقى إلا نحن، والشعر، والغناء، والعتابا والذكريات، هذه تخصنا جداً للأبد، لأننا رائعون جداً، وطيبون جداً لدرجة المستحيل، وعاطفيون جداً لدرجة اختلاط البسمة بالدمعة، والبكاء بالغناء، و…

حوّل يا غنّام حوّل

بات الليلة هين

بالله يا غنام قلّي شارد حبي فين؟!

ذاك ما يشعل الجمر في الرماد:

لتنهض القصيدة كما ينهض:

البرتقال والحور، والزيتون، والزعتر،

والكباد في لغتنا التي لا نتقن سواها..

في الغناء العذب الموجع! الجميل.

ولكننا في الثوابت: حجارة رؤوسها يابسة كالصخر، لا تلين، مع أنها ندية كالعشب الأخضر! وتميل مع الآه!

العدد 1140 - 22/01/2025