«جئت لأتكلم بالهاتف فقط».. ماركيز قاصاً

الأعمال القصصية للكاتب الراحل غابرييل غارسيا ماركيز لا تقل أهمية عن رواياته الكثيرة التي استطاعت الانتشار عالمياً، بل تكاد بعض قصصه أن تمتاز وتتقدم من ناحية الجمال والتأثير الفني والنفسي. إذ توجد في مجموعته ( اثنتا عشرة قصة قصيرة مهاجرة) التقاطات قصصية جمعت بين التوتر الداخلي والجنون الإبداعي ، وكان قد كتب هذه القصص على شكل مقالات صحفية وسيناريوهات سينمائية وتلفزيونية قبل أن تتخذ شكلها الحالي.

في مقدمة الكتاب يقول ماركيز عن القصة القصيرة: الجهد المبذول في كتابة قصة قصيرة لا يقل عن الجهد المبذول في كتابة رواية. ويتابع في مكان آخر حديثه عن لحظة الكتابة في هذا الجنس الأدبي غير السهل المنال: القصة القصيرة إما أن تتشكل أو لا تتشكل، فإذا لم تتشكل فالطريقة الأكثر صحة في معظم الأحيان هي البدء بها من جديد عبر طريق جديد، أو الإلقاء بها إلى القمامة. صحيح أنني لم أمزق تلك المسودات والملاحظات ولكنني فعلت ما هو أسوأ من ذلك، ألقيت بها إلى النسيان.

من هذه الرؤيا العميقة لكتابة القصة ننتقل إلى إلقاء الضوء على إحدى القصص التي استوقفتنا في هذا الكتاب، والأكثر نفوذاً إلى نفس المتلقي برأينا، قد حملت عنوان (جئت لأتكلم بالهاتف فقط)، فهي تسرد في عشرين صفحة ما جرى للشابة ماريا التي وجدت نفسها بالمصادفة في مستشفى نسائي للأمراض العقلية بعدما تعطلت سيارتها في الطريق، واضطرت للركوب في حافلة كانت تحمل نساء مريضات، لكنها لم تنتبه حين سارت مع رتل النساء في البناء الضخم الذي يشبه ديراً قديماً في غابة أشجار عملاقة، لم تنتبه أنه مشفى عقلي يريد أن يمضغ كل من يأتيه حتى ولو بطريق الخطأ، وكل ما كانت تقوله وهي تحاول الخروج عن الرتل: جئت لأتكلم بالهاتف فقط.. حقاً كانت تريد الهاتف كي تتصل بزوجها ، لكنهم اعتبروها من ضمن المجانين على الرغم من أنه لا اسم لها في قائمة الأسماء، ومحاولاتها في الهروب باءت بالفشل، واعتُبرت من الحالات الصعبة المحتاجة إلى إبر وقيود لليدين والقدمين.

لقاؤها صباحاً مع الطبيب أثمر عن تسجيلها في المشفى بعد ساعة من الحديث، لقد حظيت بتشخيص لحالتها: اهتزاز في الشخصية. هكذا وصلت ماريا إلى المكان المناسب وغير المناسب، حيث تتداعى أفكارها وصور ماضيها العملي والزوجي   (المحموم بالسعادة)، الذي استحقت بسبب ثقله استراحة قصيرة في مشفى ظلت تقاومه محاولة إيجاد هاتف لتتصل بزوجها، وظلت طوال أشهر تنتظر الفرصة وحصلت، لكنه أغلق الهاتف في وجهها محترقاً بالغيرة جاهلاً مكانها. حينئذ صارت ماريا مجنونة فعلاً، أصيبت بالهستيريا محطمة الزجاج ضاربة النزيلات، فأُخذت إلى جناح المجنونات الهائجات وحُقنت بالإبر.

حين جاء الزوج أخيراً إلى المصح بمساعدة الممرضة التي نالت مرادها من ماريا لقاء هذه الخدمة، قدم له الطبيب تقريراً عن حالة الزوجة، وفي لقائهما القصير حدثته عن بؤس الدير معتقدة أنها ستمضي معه إلى حياتهما، لكنه مصدقاً كلام الطبيب قال لها ستبقين هنا لبعض الوقت.

في المرات التالية التي جاء فيها الزوج ليسليها ويقدم لها حاجياتها والسجائر رفضت ماريا لقاءه، فبقيت في المصح طوال عمر قادم سعيدة بالأمان.

اللازمة التي رددتها ماريا (جئت لأتكلم بالهاتف فقط) فهمها الأطباء على أنها مرض أو عقدة، لذلك حُكم عليها بأن تُسجن وتُعالج من فوضى حياتها، كان ذلك قدرها العبثي. تلك اللازمة النداء، التي لم تخلّصها إلا من الجنون غير المعلن.

العدد 1140 - 22/01/2025