المحاورة الشعرية والتناغم العاطفي والحضاري.. مقاربة لمجموعة «وردة الحيوان» لأمارجي وكالاندرونه
تختلف طقوس العشق وتتعدد أساليبها وإشاراتها اللغوية والحركية، باختلاف الأزمنة والأماكن واللغات، والمشترك بينها هو هذا الميل الطبيعي إلى درجة (الانجذاب) بين عاشقين، وطرائق التعبير عن هذا الميل، الصريحة أو خفية، بوحاً أو شكوى وغناء أو مكابدة، وإيماء أو رقصاً وإغواء، التي تفضي إلى هذا التناغم العاطفي والجسدي والإنساني الراقي، المفارق للنزوع الغريزي إلى تلبية حاجة أو إرواء عطش حسي بوسائل بدائية.
وللمحاورة الشعرية بين العشاق مكانتها في الشعر والمسرح الشعري، وجاذبيتها للقراء، وقابليتها للغناء والرواج والانتشار، ونعثر في كلاسيكيات الشعر شرقاً وغرباً على حواريات شعر كثيرة، تناقلتها الألسنة، واستلهم الشعراء مضمونها.
ومجموعة (وردة الحيوان) تجربة جديدة في فن الحوارية بين عاشقين، لأنها تدور بين شاعرين ينتميان إلى حضارتين إحداهما شرق المتوسط والثانية غربه، أو إلى حضارة متوسطية، ينتمي كل من العاشقين إلى إحدى شاطئيه. ومبدعا الحوارية: الشاعرة الإيطالية ماريا غراتسيا كالاندرونه، والشاعر والمترجم السوري أمارجي، وقد قدم للمجوعة الشاعر السوري أدونيس، وصدرت عن دار التكوين بدمشق عام 2014.
كتب أدونيس في المقدمة: يخلق الحب مثل الشعر، مشتركاً في مستوى الكينونة، عابراً للانتماءات الإثنية واللغوية والسياسية، وثمة كيمياء خاصة في هذا المسار: نفي للذات تحقيقاً لمزيد من إثباتها، انفصال من أجل اتصال أعمق وأغنى وأكثر رسوخاً، في الحب يعرف العاشق نفسه في جسد من يحب وفي شعره، أكثر مما يعرفها في شعر يكتبه هو، كذلك الأمر بالنسبة للمعشوق، في هذا كله يتيح الحب للذات أن تكشف بعدها العمودي، ومعنى حضورها في العالم. ص 6ـ7.
والحوارية بين الشاعرين أمارجي وكالاندرونه هي مناجاة متناوبة، عابرة لعوائق اللغة والمسافة والتباينات الإثنية والحضارية، وهي محاولة لاكتشاف العوالم الداخلية للآخر، بتحريره من هواجسه ودونيته وقسوته، وبتعميده كي يتجاوز بدائيته ويبلغ إنسانيته المتجددة. وكالاندرونه شاعرة وكاتبة مسرحية إيطالية وناقدة أدبية، لها مجموعات شعرية عديدة، منها صخرة المواجهة ـ الآلة المسؤولة ـ على فم الجميع، ونالت جوائز عديدة منها جائزة بازوليني (عام 2003)، وجائزة نابولي (عام 2010)، وأمارجي من مواليد اللاذقية، له مجموعات شعرية منها: بيرودجا: النص والجسد ـ ملاحات إيروسية، وله ترجمات منها: (الأرض الميتة) لغابرييل ادانونتسو ـ و(أنطولوجيا الشعر الإيطالي الحديث).
تبدأ ماريا الأغنية المتناوبة عاشقة تحركها اللهفة نحو الولادة الجديدة، تقول: أتقدم نحوك كما لو نحو ولادتي/ ها إنني زهرة أكاسيا ـ مصوبة على قلب الليل/ من كوة دير عتيق. (ص 10).
ويرد أمارجي الذي يشطره نداء الحب واسم العاشقة إلى نصفين، فيغدو نجماً معلقاً في فضاءات متوهجة:
كيف المضيّ وأنت الجذر/ الذي يرفعني مع الشمس والقمر وأحد عشر كوكباً/ ويصب في كل العصابات/ كنت نجماً حراً/ زهرة نرد أمسكتها أنتِ عن الدوران/ وجمدتها في قرص العفن اللحائي الأحمر. (ص 21).
وفي انخطاف العاشقين بالبهاء الذي يشع في عيني كل منهما، يتحول الإنشاد إلى بوح ودهشة، وإلى تردد نغمات مستحضرة من تراث المتوسط: يقول أمارجي: عندي لكِ بهاءات لا تمحى/ رشقات لآلئ علوية وزخات إيريس وحمشْت/ تتفتح إذ تمسس لحمك/ في كؤوس زهرية ضاعفة العسل.
وترد ماريا، التي حولها الحب إلى غزالة أو ناقة عمياء، وتقول:
يا شعاع شمس أزرق/ يا جرحاً ومسبحة هلاك/ يا ناراً مجسدة أنت/ يا فيض جوهر أبيض كالشمس/.. حبي أعمى كإكليل الجبل البري/ أعمى كعمى الفريسة تحت الشمس/.. إذ تفقد فجأة كل مهر/
نظرتك تلحمني بالكون/ فإذا بي من الجهل ما بأرنب في الشمس. (ص 28-29).
مناجاة شفيفة بلون خيوط الضوء، تزدحم مقاطعها بصور وظلال متراقصة، مترافقة بإيقاعات شجية، تنتمي إلى أغنيات متوسيطة صنعتها حفائر عربة الشمس، أو أصوات النوارس ورقصاتها المجنونة، أو ضيق البحارة ومواويلهم المهداة إلى أولئك الذين ينتظرونهم خلف النوافذ في الميناء البعيد.
وأغنية حب بلا نهاية، تمنحها الطبيعة ألقاً كاشفاً وروائح لم يستطع العطارون معرفة تركيبها.
يقول أمارجي: ها أفروديت الصلصالية/ يا منجم حنطة/ وطاسة زوفى/ أسألك: أخرجيني من محبسي الضوئي/ من ساعتي الغيمية/ أو لجيني في كهرمان العنصر/ في وردة الحيوان.
وترد ماريا: الأرض هي اسمي،ههنا حيث الاسم/ خفيف مثل نسمة/ سوف تتخفف دوماً من الأرض، لأنني تلك التي كلما غصت فيها أعماك الضوء أكثر/ الحيوانات والأشياء تعرف: / في ضمة المادة تتفتح كل الذرات/ كأنها فاكهة صيفية. (ص 37-38).
والعشق لحظة تناغم واتحاد داخلي بين كائنين، تمنحهما الغابة زنابقها والسماء نجومها، والقبرات أغنية عذبة النغمات، يقول أمارجي:
الكلمات قبرات الجسد/ يفتحن مناقيرهن، وعبر أغنية حب/ يسكبن في النخاعات رصاص السماء/ طوبى لجسد يحسن تأويل مصونات اسمك!
وترد ماريا: ستجد وجهي حين أصحو: كوجه من سهر غارقاً في الأشعة الفائقة للأشياء/ قلة هم المنورون بأبهة الغبطة/ قلة هم الذين يدخرون محراب أرمدة بركانية في القلب/ لدينا الحروف نفسها في اسمينا، بالمقلوب ودون ترتيب/ عدا الصنارة المقذوفة إلى غورجيمك الصائتة/ توقف إذن عند الإشارات/ عند أغوار التجلي. (ص 7ـ 79).
التناغم بين الحبيبين يكشف لهما قوة الاتحاد في المشاع والرؤية والمعاناة واللذة، حتى نغمات حروف الاسمين تتشابه: (ماريا وأمارجي)، الجيم في الاسم الثاني هي الصنارة التي تشد وتوحد.
نص نخبوي بامتياز، تتواشج فيه قيم حضارات الشرق وشواطئ المتوسط، متجاوزة حواجز اللغة والمكان، ومستعيدة بمزيج من المعرفة والفطرة طقوس العشق وتجلياته، فتحفر عميقاً في الروح والجسد، وتلافيف الدماغ، مثلما تذهب بعيداً في الشجر والحجر والكائنات الحية أو المتعضية، وتغدو في وحدتها البهية شريكاً مؤسساً في اتحاد الكائنات لا إطاراً شكلياً باهتاً.
نص يمتزج فيه الواقع بالأسطورة، وعطش الجسد بالنداءات الصوفية الشرقية للروح، تحمل عباراته عصارات حضارات المتوسط، بكل ما فيها من غنى ودفء وانفتاح على كل ما هو إنساني.
ويضاف إلى ذلك كله جرأة المغامرة في الغوص إلى أعماق اللغة، وترويضها وتجديدها كي تكون أوضح وأقرب، وأقدر على المثاقفة والتواصل، وأقل تشوهاً (بفعل الترجمة المتسرعة)، والنص في هذا السياق قدم تجربة جديدة تغدو فيها الترجمة أقرب إلى البحث المنهجي لا في حدائق المفردات والمعاني فحسب، بل في تلافيف الواقع المعاش وأشكال التعبير الملائم للغتين وثقافتين. وهي تجربة محفوفة بالمخاطر ـ مثل كل جديد ـ ولكنها تتمتع بفرادة واتساق، ولها طاقة على التحفيز والتجاوز لا تنفد.
واللغة غنية بدلالات ورموز، وتزدحم فيها الصور والأسئلة، يقول أمارجي:
أتتسع جرتك لنجم مخالف/ ينفصل تاركاً حصنه الهوائي وراءه، طالباً طبائع الحياد البطيء؟ (ص 94).
وتقول ماريا رداً على صورة الشاعر العاشق:
تهوي بين ذراعي مثلما تهوي في البحر، الشمس الأكثر علواً/ واسمك يلامس شفتي بكل سخاء الصيف/ أجساد الشعراء هي أزهار كرز لا تحصى/ كل كلمة منهم جنحة/ عقد مخالف كما الشعاع الأخضر الذي يعبرنا/ حين يهبط الظلام على المدينة/ كل شيء أخضر الآن/ كل شيء عذب. (ص 96).
لا تخوم للأسئلة، ولا نهاية لمغامرات اللغة، ولا استراحة لقلوب العاشقين، في حضارة وجهة وبرزخ، فكيف إذا تلاقت حضارتان وجهتان وقلبان مضطرمان بالعشق؟ عندئذ يبدو كل شيء أخضر وعذباً!