صورة المرأة في الفن التشكيلي

بدأت صورة المرأة تظهر في الفنون التشكيلية مع ازدهار الفن الاستشراقي في القرن التاسع عشر، ولطالما شكلت المرأة لعربية مكانة هامة لدى الفنان الغربي، وذلك لما للشرق من سحر وجاذبية كانت حافزاً للتعبير عنه، ولذا كانت المرأة هي الموضوع المفضل وقد تجلت في صور مهمة كان أبرزها المرأة الشرقية المرتمية بين الوسائد الحريرية المتلفعة بالأردية الثمينة.

وقد كان لهذه الصورة أثر كبير على الذهن الغربي الذي اعتمدها ماركة مسجلة للمرأة الشرقية، كما كان لها من جهة أخرى تأثيرها على الذهن العربي في إضفاء ملامح أسطورية إغوائية على المرأة الشرقية. ومع ذلك لم تكن بداية ظهور الفنون التشكيلية في الشرق العربي متأثرة بهذه الصورة التي نسجها الفن الغربي عن امرأة الشرق بالرغم من كلية إغوائها، فالفنان العربي كان بالغ التأثر في لا وعيه الثقافي بالمفاهيم السائدة التي تفضي بشكل من الأشكال إلى رفض الصورة في المجتمعات الإسلامية ولذا جاء متأخراً بروز اللوحة الفنية المؤطرة والنصب النحتية عامة حتى حلول القرن العشرين الذي يؤرخ لأغلب الحركات الفنية الأساسية في العالم العربي.

وهنا تجدر الإشارة إلى أثر التلاقح مع الغرب في نمو الفنون التشكيلية ولذا تفاوت تاريخ البدايات بين بلد عربي وآخر انطلاقاً من مرحلة التأثر والتعرف والنقل والاستيحاء إلى مرحلة نشوء القوميات ومعارك الاستقلال الوطني والتساؤل عن الهوية والسعي نحو لوحة فنية متفردة، وفي حالات كهذه كانت غالبية الفنانين من الرجال سواء أكان رجلاً عادياً أو ممن درسوا في أوربا وحملوا معهم نكهة الفنون الاستشراقية الممتزجة بتيارات الفن الحديث المتسارعة في أوربا القرن العشرين. وبالمقابل لم يكن للمرأة تلك الحرية في التعبير عن نفسها وعن موهبتها أو حتى إمكانية سفرها إلى أكاديميات أوربا، فتجلت أغلب ابداعاتها في مجال التطريز والرسم على القماش، ذلك الإبداع الذي لم يحمل وللأسف توقيع مبدعاته المنسيات

ظهرت في تلك الفترة بعض الفنانات ولكنهن لم يتجاوزن عدد أصابع اليد الواحدة وذلك في مصر ولبنان، وقد أتين من محيط عائلي منفتح ومن موقع اجتماعي متطور أتاح لهن التعبير عن إمكاناتهن بكل ثقة، فكن متمردات أو مناضلات دخلن السجون.

لكن اللافت أن النساء كن دائماً وراء اللوحة أو في داخلها -الملهات الإسطوريات، وكانت صورهن في البداية تتجلى في صورة ربة الإلهام المتخيلة الجميلة التي تلهم الفنان ولكن ثمة رغبة لم تتحقق للفنان رغم كل هذا وهي رسم صورة المرأة الحقيقية التي يعايشها ويعرفها.

فالنساء الشرقيات يرفضن الجلوس أمام رجل فنان ومجرد لقب فنان في المجتمعات العربية كان كفيلاً بإثارة اللغط لاعتبارات اجتماعية وأخلاقية، لذا لم يرسم الفنان منذ بداية القرن العشرين إلا صورتين واقعيتين  للنساء…صورتين تحملان الكثير من الإشارات والرموز، إحداهما حين رسم صور الوجهاء اضطر إلى رسم زوجاتهن باللباس التقليدي فلم تكن سوى صورة فوتوغرافية لتأكيد السلطة والجاه.

ومن جهة أخرى كانت المرأة البدوية أو الغجرية الوحيدة في ظل مجتمع محافظ كهذا من ترضى أن تقف أمام الرسام بشكلها ونظراتها الجريئة الواضحة المعبرة عن واقعها دون خوف. وبينما كان فنان الاستشراق يجمع عناصر لوحاته من مشاهد متعددة للنساء والأزياء والأماكن لصياغة المرأة -النموذج كان الفنان العربي يتبع المسيرة نفسها لصياغة القروية – النموذج. وفي هذه البدايات برعت المرأة الفنانة في رسم المرأة الريفية للتأكيد على الدور الاجتماعي والجمالي للفن وعلى تمسكها بالتراث

ولكن دخول المرأة -الموديل إلى محترفات الفنانين شكل مرحلة جديدة في  التطور الاجتماعي بالتوازي مع تبدل التيارات الفنية، ولكن المرأة الموديل بقيت امرأة سرية لا تستطيع الإعلان عن نفسها وعن مهنتها بالرغم من أنها كانت نادرة الوجود، وهذا مادفع بأجيال كاملة من الفنانين إلى اعتماد موديل واحد (امرأة تقبل بالجلوس والتعري أمام رجال رسامين غرباء )

شكل دخول المرأة الموديل إلى المحترف لقاء واقعيا بين الفنان والمرأة ورسم صورة أكثر واقعية لها، صورة مختلفة عن الصورة السابقة التي لم تكن سوى ترجيعا لصدى لوحات المستشرقين في أبجديتها المستعادة أو لبعض رسوم فناني الغرب، إذ تتلمذ أغلب الفنانين في محترفاتهم.

هكذا ظهرت المرأة العارية في الفن وحملت في عريها الكثير من التأويلات، فهي رمز للخصب والحب والجنس وكل  ما يمت إلى الإنسانية بصلة، ولكنها في الوقت نفسه كانت رمز للالتباس والتحريم كيفما كانت طريقة ظهورها في اللوحة.

وهنا تجد ر الإشارة إلى أن أغلب الفنانين العرب تتلمذوا على يد لوحة الغرب وفي أكاديمياته سواء الفرنسية أو الإيطالية، لذا كانت صور العاريات في لوحاتهم مفاجئة  وغير مألوفة وفي هذه المرحلة كان التقبل الفني مقياساً لتنوع المجتمعات العربية ومدى تحررها وتطور رؤيتها للمرأة.

ومع بروز قضايا التحرر في العالم العربي تحولت صورة المرأة إلى رمز لقضايا الاستقلال والتحرر وأضحت صورة وطنية وتحولت في بعض الأماكن إلى أيقونة تختصر في شكلها وأزيائها ومواقفها محنة وقضية شعب بأكمله وتمسك هذا الشعب بذاكرته وحنينه إلى الوطن المفقود (فلسطين)، ولكن هذه الصورة التي تحمل في ثناياتها معاني الحرية لم تستطع أن تخرج من تقليديتها من الناحية الفنية ولا كلاسيكيتها من الناحية التقنية.

العدد 1140 - 22/01/2025