الراتب خلفنا والغلاء أمامنا.. فأين المفر؟

قبل اندلاع الأزمة في سورية- وربما كان أحد أهم أسباب اندلاعها- هو عدم التوازن الذي كان قائماً بين الأجور والأسعار التي كانت بين الحين والآخر تُحلّق إلى مستويات تخنق المواطن وإمكانية العيش بقليلٍ من الإنسانية في حيازة بعض أساسيات المعيشة.

ومع اندلاع تلك الأزمة منذ ما يُقارب العامين، ورغم الزيادة التي جاءت مع الأيام الأولى لها، إلاّ أن الفلتان الذي شهدته الأسواق لم يكن مسبوقاً. إضافة إلى نقص واختفاء العديد من السلع التموينية الأساسية لحياة الناس- عدا مواد يمكن الاستغناء عنها- حتى أصبح اللجوء إلى المؤسسات الاستهلاكية الحكومية هو الحل الوحيد أمامنا، مع أن الأسعار في تلك المؤسسات لا تختلف كثيراً عن الأسواق، مع فارق جوهري، هو أن الأسواق تعرض أمام المستهلك أصنافاً متنوعة من المواد، بينما تلك المؤسسات لا تقدّم هذا التنوّع، عدا أنها لجأت مؤخّراً إلى مخزونٍ قديم لم نعد نتعرّف إليه، وبنوعيات رديئة للغاية، هذا إن وجدت أصلاً في مراحل لاحقة. أما مؤسسات الخضار والفواكه فهي تضعنا أمام خيار وحيد من المواد وبأسعار مقاربة جداً لأسعار السوق الذي يترك أمام المستهلك خيارات تساعده نوعاً ما على شراء خضار مقبولة بعض الشيء وبسعر يلائم قدرته الشرائية التي بدأت بالتلاشي والانهيار تقريباً أمام هذا الفلتان الجنوني للأسعار ولا من رقيبٍ أو حسيب.

كل هذا الوضع كان إلى وقتٍ قريب ربما يمكننا التعاطي معه بشق الأنفس، فقد أمكننا التعويض عن نقص وغلاء الغاز المنزلي باستخدام الكهرباء التي باتت اليوم عزيزة المنال في العديد من المناطق السورية التي تشهد انقطاعاً متواصلاً للتيار يُلغي معه أيّة إمكانية للحياة الإنسانية العصرية، فقد عاد الناس للغسيل اليدوي- في الطشت- والطبخ على موقد الحطب المقتطع من الأشجار المثمرة أو الحراجية في الحقول والغابات. ومعروف تماماً مدى فظاعة قطع تلك الأشجار وتأثيرها على البيئة ومصادر الغذاء، وفوق كل هذا هناك الدراسة التي باتت من مخلفات الماضي بالنسبة إلى التلاميذ الذين لم يعودوا بقادرين على القيام بواجباتها في ظلِّ العتمة شبه الدائمة، لاسيما في ظلّ الدوام النصفي الذي فُرض هذا العام تماشياً مع وضع المدارس التي تأوي النازحين من مناطق الاضطرابات، إذ تُلغى الحصص الدرسية الأخيرة لعدم وجود مصابيح أو بسبب انقطاع الكهرباء، فلنتخيّل الوضع العلمي والمعرفي لتلاميذها في مثل هذه الأجواء..! والمُضحك المبكي في موضوع الكهرباء، هو الفواتير المرتفعة أو المضاعفة دورة بعد أخرى، والتي لا نجد مبرراً لها غير إذلال المواطن وخنقه. فمن أين لنا بكل هذا الكم من الاستهلاك والكهرباء لا تزورنا إلاّ نادراً؟ وقد فرض انقطاع الكهرباء وغلاء المازوت أو نقصه أيضاً أزمة أخرى أشدُّ ضراوة، وهي أزمة الخبز التي باتت الشغل الشاغل للناس يومياً. فتراهم طوابير متدافعة أمام الأفران التي تعمل بطاقة متدنية هي الأخرى، أو أمام كوّات توزيع الخبز رغم أن بعض هذه الكوّات مغلق، فهم ينتظرون رغم المطر والبرد والتأخير عن الدوام، الذي بات هو الآخر أزمة حقيقية ومعضلة غير قابلة للحل في المدى المنظور. وهنا لا يمكننا أن نُغفل مسألة هامة، وهي أن بعض الأفران وبضمنها الحكومية قد لجأت لإنقاص عدد الأرغفة في ربطة الخبز، أو لإنقاص الوزن عبر رغيفٍ رقيق لا يساوي نصف الرغيف سابقاً، وبالتالي نكون قد خضعنا لزيادة أخرى على سعر الخبز الذي وصل ثمن الربطة منه إن وُجِدَ في المحلات التجارية إلى خمس  وعشرين ليرة مع فضلٍ من البائع أنه قدّم لنا خدمة جليلة..!

يأتينا فوق كل هذا الضغط المعيشي القاسي، أزمة المواصلات التي فرضتها الأوضاع الأمنية من جهة، وشح وغلاء المازوت الذي يشتريه سائقو وسائط النقل العام من السوق السوداء حسب زعمهم، ليفرضوا علينا تسعيرة مضاعفة، أو تفرضها الحكومة من أجل إرضاء السائقين الذين يهددون يومياً بالإضراب لعدم توافر المازوت، أو لأن التسعيرة لم تعد تتلاءم مع غلاء ثمنه. أمام هذا الوضع بات السير على الأقدام هو الحل الأمثل أمامنا كي لا نقف طويلاً في انتظار فرصة الركوب التي ربما لا نصل إليها إن وقفنا بكرامتنا بعيداً عن التدفيش واللكم والشتائم من جهة، ولكي نتجنب أجور المواصلات التي باتت تنهب أكثر من ربع الراتب في الشهر من جهة أخرى.

طبعاً هنا لم يعد بإمكاننا الحديث عن أسعار اللحوم والفواكه أو الملابس والأحذية، لأنها باتت من الكماليات الترفية لنسبة كبيرة من شرائح المجتمع، ولاسيما العاملون بأجر، سواء في القطاع العام أو الخاص إن بقي فيه عمال، وأولئك المعذبون في الأرض الذين لم يعد أمامهم لا عمل ولا فرص لحياة تليق بإنسانيتهم المسفوحة على أعتاب مقتنصي الأزمات الذين كدّسوا الملايين خلال الأزمة وعلى مرأى من الحكومة ومسمع مسؤوليها الذين لم يحركوا ساكناً أمام كل هذا الذل والإفقار الذي يتعرض له المواطن السوري على مدار الساعة، لاسيما أولئك المسؤولون الذين رفعوا شعارات جعلت بعض الناس متفائلين إلى حدٍّ ما، من مثل (معيشة المواطن خط أحمر).

فعلاً، أصبحت معيشتنا خطاً أحمر، لا يمكننا الاقتراب من حدودها الإنسانية البسيطة أمام كل هذا الواقع المرير الذي نحيا، دون أن يرفَّ جفن لأولئك الطامعين من التجّار، أو المسؤولين الذين وصلوا إلى ما سعوا من أجله، وهو المنصب والمكاسب على حساب قوت يومنا وكرامتنا وإنسانيتنا، دون إمكان عثورنا على مفرٍّ آمنٍ يعوّض لنا تلك الإنسانية والكرامة التي فقدناها في وطننا الذي نأمله دائم الأمان والسلام الكرامة.

العدد 1140 - 22/01/2025