رسائل أدبية… توقيع على انكسارات أبطالها

لابد أن يحتوي النص الروائي، بما يفترضه أصلاً من تقنيات وعناصر جمالية تتفاوت بين منجز وآخر، على عنصر ما يلفت النظر إليه دون غيره أو بما يفوق غيره، فقد يبرع كاتب ما بالسرد الروائي وقد يبرع آخر برسم الشخصيات ومسارها، وقد تسود لغة آخر على كل المنجز فتكون الأجمل.

وهناك المونولوج الداخلي الذي قد تلجأ إليه النصوص الروائية على شكل رسائل أرسلها أبطال في الروايات إلى آخرين، رسائل كتبوها لتنفس عن ضغوط جثمت على صدورهم، أو لحاجتهم الماسة إلى التوقيع على ضعفهم بعد الإقرار به.

هي مونولوجات تبغي التخلص من بثور علقت في الأرواح، تأتي كإضافة مهمة إلى بعض الروايات، إذ لا يكفي أحياناً السرد والحوار عن الشخصيات وفيما بينها ولا يكفي الحدث، وقد تتمركز هذه الرسائل على عرش العمل الأدبي فتكون أكثر من بوح وأعمق من بكاء.

بين أيدينا  روايتان تميزت كل واحدة بميزاتها الخاصة. الأولى (العين الأكثر زرقة) للروائية الأميركية توني موريسون الفائزة بجائزة نوبل، والثانية (البحث عن وليد مسعود) للكاتب الفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا.

رسالة ألهيو

تبحث (العين الأكثر زرقة) في مجتمع السود عبر مجموعة من الشخصيات منهم الشقيقتان الصغيرتان فريدا وكلوديا وصديقتهما بيكولا، وهناك حيوات عائلاتهم فقيرة المال والألوان، فتراهم يعيشون أياماً تشبه قتامة بشراتهم، خاصة بيكولا التي تحلم بعيون زرقاء أجمل من عيون زميلاتها في المدرسة، وهناك ألهيو ويكا ويتكومب المعروف باسم سوفيد، والذي ادعى القدرة على مساعدة الناس في أمراضهم، وبالفعل صدّقوه، وبيكولا التي تعرف أنها قبيحة لجأت إليه من أجل أن تصبح عيناها زرقاوين.

ألهيو، بعد معاناته في محاولة العثور على ذاته، وزواجه القصير الفاشل، خط رسالة إلى الله عبّر فيها عن غضبه، وصرح بضعفه وحزنه وميوله الشاذة، فكان اعترافاً منه لله بأنه عليل ومذنب، وفضّل الكتابة على الاعتراف في كنيسة أو قبالة أحد.

بكى في الرسالة بسبب فيلما التي كانت زوجته وقد تركته بالطريقة نفسها التي يترك الناس فيها غرفة في فندق، كما كتب. إنها نتيجة مريعة توصل إليها: أن يشبه فندقاً لا أكثر! أن لا يكون بيتاً أو سكناً لامرأة، أن يكون مجرد محطة، أشياء مريرة جعلته معتلاً، فوجد في التحرش بالفتيات الصغيرات لذة وإثماً مريحاً كعيونهن المفعمة بالأمل، مبرراً أفعاله تلك بأنه لا يؤذيهن، مدّعياً بأنه قضى معهن أمراً نظيفاً ونبيلاً. وازداد غضبه في هذه الرسالة من أجل بيكولا التي أتت تطلب عينين زرقاوين ظانة أنها تشتري شيئاً ما، يقول كأنه يعاتب الله: ( كيف كان بإمكانك يا إلهي أن تترك صبية وحيدة كل هذا الوقت الطويل إلى أن استطاعت أن تجد طريقها إلي؟) .

وليد والتعطش للبوح

في سبيله نحو بداية شائكة جديدة قد تكون الحياة أو الموت، وفي سفره نحو الأرض الأولى أو نحو الغياب الأبدي، كان الرجل الأديب والمناضل والفنان وليد مسعود مسافراً في سيارته نحو هدف ما، وهو الرجل المغامر الثائر العاشق لنساء عديدات والمهزوم منذ أن نفي من حقل الزيتون، في سيارته التي تشق الصحراء يتحدث إلى نفسه راغباً بسماع صوته يشكو وينادي ويشجن ويبكي ويضحك، إذ لديه من الحب لطفولته ومدرسته وأصدقاء الشقاوة الكثير، والسنوات التي جبلت كاهله بالنضوج لم تُنسه أنه منفيّ عن تلك الأرض، لكنه يحلم ببعض السكون إذ جاوزت القسوة المدى (آه يا مسكين يا جاهل إلى متى تبقى تحلم بالعبور إلى عوالم أخرى وما لديك إلا هذا العالم القاسي العنيد عليك أن تقارعه ولا تخشاه). وهو يتذكر أشجار الزيتون والتربة الحمراء والكهوف الظليلة الباردة حيث كان ورفاق الطفولة يأكلون العنب والتين، ويهاجمون المدبرة والدبابير، ويتنقلون من جبل إلى جبل هرباً من أهاليهم الذين ينادونهم عبر الفضاءات، تلدغ مشاعره حبيبته شهد ذات الوجه القرير، وكأنها الحبيبة الأخيرة التي تستحق أن يرثيها وهو في طريقه إلى المجهول متسائلاً:(لمَ الحب يملؤه الحزن كأنه بداية الفراق؟) . هذه الرسالة الصوتية التي وجدها أصدقاؤه في سيارته تشبه صنبوراً غزيراً بأفكاره وأحماله الثقيلة، وكأنه أراد أن يخلّص العالم ولم يستطع، فأحرقه عجزه ، وفي هذا الازدحام تحضر الأم بعنادها وكبريائها كمسك ختام الصيحة، عناد يفتت الحجارة ويملأ الجبال ينابيع، لتنتهي رسالته بالجملة الأعقد( فلأجرب أن أحدد السؤال) وكأنه لم يسأل طيلة الرسالة متى سيعود إلى أمه وحبيبته وبيته الأول.

هذه الرسالة المطبوعة بخط أكثر اسوداداً من بقية الرواية تكاد تكون الفصل الأكثر تأثيراُ، فهي التي أعلنت عن غيابه وفضحت هشاشته أمام الأحزان المتراكمة، بلغته الفوضوية الحيوية والمتحللة من علامات الترقيم، ما جعلها متصلة من أولها إلى آخرها دون أن يلتقط أنفاسه أو يفسح المجال لبعض توقف، ما يرجح كفة تعطشه الكبير للبوح.

العدد 1136 - 18/12/2024