بين النص وصاحبه.. حكاية تعالق والتباس!

في تعقّب أولى السير الذاتية في العالم العربي ثمة من يصنف كتاب (طبقات الأطباء) لابن أبي أصيبعة (1203-1269) كتاباً في السيرة الذاتية، وذلك في تتبعه لحياة ابن سينا، وعلاقة هذا الطبيب الوثيقة مع طلابه، واعتداده بنفسه، وهو الذي كان يرى أنه لم يكن هناك مدينة بحجم ذكائه، وأنه كان لديه عادة، أنه يعيد النظر بكل معارفه كل عشر سنوات، وكانت ذاكرته أهم مراجعه على الإطلاق، وفي الليل على سبيل المثال كان يتناول الخمر..

السيرة الذاتية

مع ذلك فإن السيرة الذاتية ليست مرآة صاحبها فقط، أو ما يريد منها صاحبها ولها أن تقدمه، لأننا نكاد لا نرى في السيرة إلا مايريد الراوي (واعياً أو غير واعٍ) إظهاره، وربما في أحيان كثيرة لا نرى فيما نقرأ، أو لا يخيل إلينا أننا نرى في المرآة إلا أنفسنا، فنحن على الأرجح – كما يقول محمد كامل الخطيب- إنما نقرأ في سير الآخرين سيرنا كما نرغب أن نكون، أو كما نرغب أن نكتبها، واصفين تجاربنا وحيواتنا، تاركين عبء (نرجسية) السيرة الذاتية وصراحتها الآخرين، إنها ببساطة تحويل مرآة الآخر إلى بديل لمرآة الذات، و.. ربما يكون ذلك ضرباً من المكر النفسي والعقلي..

من هنا، عندما تناول مسلسل درامي مصري السيرة الذاتية لحياة ابن سينا، لم يقدم ذلك الجانب المخفي من سيرة ابن سينا، وإنما كرّس المعروف من حياة تلك الشخصية، على العكس تماماً مما فعله الراحل ممدوح عدوان عندما أعاد قراءة الزير سالم قراءة تخالف المعروف عنه، وذلك بأن خلع عنه أثواب الأسطورة، التي كانت تضيع شخصيته إن كان من (الآلهة) أم من البشر، وهذا الأمر لم يتوفر لعمل (أبو زيد الهلالي) الذي بقي يدور بقالب السيرة الشعبية المعروفة لدى الكثير من الناس، كما لم تقدم كل الأعمال الدرامية التي قُدمت عن شخصية صلاح الدين أي جديد لايعرفه حتى المتلقي العادي، إذ بقيت تلك الأعمال تدور في المربع ذاته والدائرة نفسها المتعارف عليه، والأمر ذاته لو قارنا بين مسلسل أم كلثوم، والعمل الذي قُدم عن أديث بياف الفرنسية، ففيما كرس العمل الأول (المهابة) المتعارف عليها لأم كلثوم، بيّن العمل الآخر الجانب الشخصي الإنساني لبياف، وكما بقي الزير سالم تلك الشخصية المحببة في الذاكرة الشعبية بعد المسلسل، إن لم يزدها حباً، كذلك لم يُنقص كشف الجانب الإنساني لأديث بياف من محبة الناس لها..!

شيء من الذات

ثمة تعالق بين النص وكاتبه، وهذه حقيقة مهما حاول الكاتب أن يزعم أن ثمة مسافة بينه وبين نصه، حتى عندما يكتب (المؤلف) عن الآخرين لابد أن يضع شيئاً من ذاته في تلك النصوص التي يكتبها عنهم، ومع ذلك فإن هذه (الكتابة الذاتية) تتشابك مع ذوات الآخرين في أكثر من منعطف، لتصير الأنا الجمعية هي الأخرى ظاهرة في العمل الإبداعي الحقيقي، ذلك النص الذي لامفر لقارئه أن يجد فيه شيئاً منه، فالقصيدة رغم إغراقها في الذاتية هي شيء شخصي يهم الآخرين كما يردد أكثر من ناقد وشاعر، ومن هنا كانت تلك المحاولات لبعض النقاد، وحتى بعض القراء، أو المتلقي لأي نص إبداعي، ومن ذلك اللوحة التشكيلية، والفيلم السينمائي في (القبض) على المبدع متلبساً وإسقاط وقائع النص على وقائع حياة الكاتب، أو الفنان..!

وحسب الروائي إبراهيم أصلان، فإن كل عمل إبداعي، وفي أي مجال من المجالات، هو سيرة على نحو أو آخر، حتى لو لم يتعلق الأمر بتجربة الكاتب، أو سيرته الشخصية.

رغم هذا التقاطع بين هذه (الأنات) أو (الأنوات) فإن ثمة اتجاهاً اليوم لكتابة السيرة الذاتية، سواء كتبها الشخص- المؤلف ذاته عن نفسه، أو كلّف آخرين بكتابتها، وهذا الاتجاه ليس في الكتابة وحسب، بل في الإنتاج الدرامي والسينمائي أيضاً، وحتى في اللوحة التشكيلية، التي أخذت هي أيضاً هذا الجانب الشخصي، وثمة قراءات جديدة للوحات كبار الفنانين التشكيليين في العالم، تؤكد تصوير ذواتهم في الكثير من أعمالهم الفنية..

العدد 1136 - 18/12/2024