من بلد يزرع الحمضيات إلى بلد يزرع الفجل

منذ بداية الثمانينات بدأت مناطق زراعية واسعة من الساحل السوري بالتوجه إلى زراعة الحمضيات، ومنذ ذلك الوقت كانت مساحة الأراضي المروية وعدد الأشجار المزروعة بالحمضيات في تزايد مستمر، وحتى عام 2015 بلغت الأراضي المزروعة بهذه الفاكهة في الساحل السوري 98 % من إنتاج سورية (75% اللاذقية، 23% طرطوس) بمعدل نحو 53% من الزراعات المروية في طرطوس (9265 هكتارا)، ونحو 91% من الزراعات المروية في اللاذقية (33190 هكتاراً) بحسب إحصائيات وزارة الزراعة. لكن مع اشتداد الأزمة السورية وانقطاع طرق المواصلات في العديد من المناطق السورية، بدأ تصريف منتجات هذه الفاكهة يعاني الكثير من الصعوبات، عمقتها فرض الدول العربية عقوبات اقتصادية جائرة على سورية، فتحول الأمر إلى موضوع كارثي مع احتلال عناصر (تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام) (داعش) مدينة الموصل العراقية، وإغلاق جميع الطرق البرية عبر الأنبار، إذ كان العراق من اكبر مستوردي الحمضيات السورية.

لم تكتمل القضية عند هذا الحد، إذ حصلت عمليات اختطاف عدة لبعض تجار الحمضيات أو ذويهم مقابل فدية مالية هائلة، ما دفع عدد منهم إلى ترك هذه التجارة نهائياً، واثر هذا بشكل واضح على نشاط أسواق الهال في الساحل، حيث هبطت الأسعار إلى ما يقارب سعر التكلفة. ومع ذلك ولضيق الأحوال استمر المزارعون بالبيع رغم انخفاض السعر.

في العام الماضي ومع ارتفاع سعر الدولار وتجاوزه عتبة الخمسمئة ليرة، واحتكار أحد المستوردين المادة الأولية لإنتاج صناديق التعبئة، وعدم قدرة الجهات المعنية على محاسبته لأنه من عائلة معينة، ارتفعت تكاليف الإنتاج إلى حدودها القصوى وأصبحت تكلفة بيع طن الحمضيات أعلى من سعر المبيع، ما دفع المزارعين إلى تركه دون قطاف مع ما يمكن ان يسبب ذلك من خطورة على حيوية الأشجار، وتضرر الدورة الاقتصادية الناتجة عن تجارته، وتشير إحصائيات مكتب الحمضيات في وزارة الزراعة إلى وجود نحو 50 ألف أسرة تعمل في زراعة الحمضيات، يضاف إليهم بضعة آلاف من العمال الموسميين.

رغم وجود مئات الوحدات الإرشادية وآلاف المهندسين الزراعيين الموظفين على ملاك وزارة الزراعة والإصلاح الزراعي في الساحل السوري، لم يحصل أي تنظيم أو دراسة جدية للاستفادة الوطنية من الإنتاج الهائل لمادة الحمضيات الذي يقدر بمئات ألوف الأطنان، مازال مهندسو هذه الوزارة ومخططوها في غيبوية بيروقراطية غير مقبولة، لدرجة أن فرصة ذهبية جاءت أمامهم العام الماضي مع تدهور العلاقات الروسية التركية، فقد كان من الممكن خلالها تأسيس لصيغة تجارية ناجحة بالحد الأدنى لتصدير هذا المنتج إلى روسيا، لكن مسؤولي مديريتي الزراعة في اللاذقية وطرطوس منشغلون للأسف في مصالحهم الشخصية، في حين أن الوحدات الإرشادية كانت ومازالت فارغة أو يكتنفها لعب الورق.

هذا العام أصبح الواقع حقيقة عندما بدأ مزارعو الحمضيات، بشكل غير مسبوق، بقلع أشجار الحمضيات ضمن أراضيهم المعروفة بأنها صغيرة المساحة عموماً، كي يزرعوا بدلاً منها، الفجل (الذي سعر الكيلوغرام منه ثلاثة إلى أربعة أضعاف مثيله من الحمضيات) أو الخس والبقدونس أو أنواع أخرى من الأشجار، لكي يتمكنوا من الحصول على لقمة العيش. لا أحد ربما سيصدق أن أشجار حمضيات تجاوز عمرها الثلاثين أو الأربعين عاماً تُقطع الآن من أجل أن يحل محلها زراعة الفجل!، لكن هذه حقيقة يمكن أن تسمعوها من أي مزارع حمضيات في الساحل السوري، الذي سيخبركم أيضاً كم سنة شاقة ومكلفة ستمر حتى تصبح شجرة الحمضيات منتجة وترد لصاحبها ماله وتعبه.

وكما هي العادة في تحمّل جريدة (النور) مسؤوليتها الأخلاقية المهنية والوطنية إيصال صوت من لا صوت لهم، بينما لم نر ذخراً في وزارة الزراعة والاتحاد العام للفلاحين سوى الكلام والشعارات البراقة. وقد قرأنا في كتب التاريخ أن الإسرائيليين عاقبوا الشعب الفلسطيني بقطع الأشجار المثمرة لتجويعه وتركيعه، أما أن يعمد شعب إلى قطع أشجاره طواعية خوفاً من الجوع والتركيع فهذا لم نقرأه، وهذه مفارقة تاريخية لا نجد لها مثيلاً. لكن يمكننا أن نسجل لهذا التاريخ أن هذه المفارقة هي من منجزات مديرية الزراعة في محافظة ساحلية. أما غداً، فأي نوع من الأشجار سيكون مصيرها من مصير الحمضيات، فهذا ليس من علم الغيب بل من علم سوء التخطيط والتردي المؤسساتي.

العدد 1136 - 18/12/2024