هدوء (تسونامي) الغربي.. والمستهلك بلا حماية والأسعار جامحة

تبدّد الزخم الكبير، الذي أشاعه وزير التجارة الداخلية وحماية المستهلك عبدالله الغربي. تنوس الأضواء، التي أشعلها، مع تسلمه حقيبة المستهلك. تذهب مع الريح، جرعة التفاؤل، التي خلقها. إذ مازالت الأسواق غارقةً في حالة فوضى مخيفة، مع استمرار فلتان الأسعار، وتأرجح غير مفيد في التوجهات.

هدأ (تسونامي) الغربي. خفت ظهوره غير التقليدي، في المخابز ومحطات الوقود والأسواق. تلك التحركات، التي استقبلها المواطنون بارتياح، يتساءل كثيرون، اليوم، عن مصيرها؟ وجدواها؟ والفرق الذي خلقته؟ ودورها في تقويم العمل؟ وغيرها من الأسئلة التي يطرحها المواطن الذي يقف بين فكَّيْ كمّاشة: الأسعار دائمة الصعود، والدخول دائمة التآكل.

 برز التفاؤل بالوزير الغربي، وحتماً وزارة التجارة الداخلية، نظراً لعدم قدرة الحكومة على اتخاذ إجراءات جدية، تسهم في تحسين المستوى المعيشي للناس، ماخلا محاولات ضبط الأسعار. فالفقر، الذي حلّ ضيفاً ثقيلاً، على أكثر من ثلاثة أرباع السوريين، بالتضافر مع الحرب الطاحنة، لم يتركا فسحة أمل تؤدي إلى انفراج حقيقي في الشأن المعيشي. كما لعب التقاعس الحكومي المستمر، وتجاهل قضايا الناس الجوهرية، دوراً كبيراً في تعميق الفقر، وترسيخ الانقسام الطبقي الحاد، بين قلة تستأثر بالثروة، وغالبية ساحقة تعيش على الهامش، وتنتظر حكومة تنتشلها من القاع، وإجراءات تساعدها على النهوض. ومع تفاقم تدهور الوضع المعيشي، وانسداد طرق تحسينه أمام المواطنين الصابرين على وضعهم المتدهور، بزغ نجم وزارة حماية المستهلك. ووُلِّد لدى فقراء سورية أمل بسيط، بأن وزارة تهتم بخبزهم، وغذائهم، وأسعار موادهم الاستهلاكية، قد تخفف من حدة انزلاقهم باتجاه الفقر، وتحد من ظهور حالات الابتزاز التي يتعرضون لها، وتقف حجرة عثرة أمام المُستغِلّين (بكسر الغين)، وتواجه محترفي نهب لقمة عيشهم بجرأة، وتتحدى بجدية تجار الأزمات الذين يضيقون الخناق عليهم.

 تمكّن الغربي في الأشهر الثلاثة الأولى أن يكون وزيراً نجماً، بالنسبة لأقرانه. إلا أن تواتر صعود أسهمه لدى الشارع، لم يترافق فعلياً بما يمكن أن يفعله، لجهة تنفيذ مهام الوزارة. الآن، يتساءل مزارعو التفاح بالسويداء، عن الوعود التي قدمها لهم الوزير الغربي، لتسويق كامل موسمهم؟ في السياق ذاته يتساءل منتجو الحمضيات في الساحل عن مصير منتجهم؟ طبعاً قيمة موسمي التفاح والحمضيات تقدر بـ 90 مليار ليرة، وفقاً للغربي.

يمتلك الغربي أدوات كثيرة، قادرة في حال استثمرت، أن تغير رياح الأسواق المحلية، التي تهب عكس مصلحة الناس حالياً. ومنها، مؤسسات التدخل الإيجابي: الخزن والتسويق، والاستهلاكية، وسندس. ثلاث مؤسسات تعد اليد الطولى في التحكم بالأسواق، هي اليد الخفية والظاهرة في آن. ثمة ما يعرقل عمل هذه المؤسسات، والإشارات باتجاه شأنها الداخلي، وإداراتها. ترضخ هذه المؤسسات لرغبات ومصالح قلة من المحتكرين. لا تُظهر قوتها المطلوبة، وتعيش على هامش الأسواق، وفي أحيان كثيرة، ونظراً لأنظمتها وقوانينها، تعرض سلعاً بأسعار قريبة من السوق، أو متطابقة معها. هي تفقد عنصر قوتها، تبدد دورها، تفقد داعميها، دون أن تدرك مخاطر هذا العمل.

تستأثر هذه المؤسسات بقرارات تُلزم كل مستورد بتقديم 15% من حجم سلعه المستوردة لعدد من المواد الأساسية. أي يصل إلى هذه المؤسسات من السلع الأساسية دون تعب، ما يمكّنها من ممارسة دور تدخّلي مهم في الأسواق المحلية. لكنها تكتفي بما يأتيها، تستمرئ ما يقدمه لها التجار بشطارتهم، ويتركونها غارقة بهذه الكميات، التي لا تسد جوعاً متزايداً للسلع الأساسية في الأسواق المحلية. لم تستطع هذه المؤسسات أن تكون ذراعاً تدخلياً قوياً للدولة، وضامناً لاستقرار الأسواق. وننتظر من الغربي ما سيقدمه بشكل نهائي. إذ إن الفكرة المتبلورة لديه، هي الذهاب لدمج المؤسسات حسب الاختصاص، وأصدر نصف قرار يلزم كل مؤسسة باختصاصها، مع مهلة إلى مطلع العام لتصفية كل السلع التي ليست من اختصاصها.

مشكلتنا الكبيرة في موقف كل وزير من المؤسسات، واحد يدعم، وآخر يشكك، وثالث لا يرى نفعاً في عملها. تغيب الدراسات الحقيقية، لا توجد دراسات جدوى اقتصادية، أو دراسات قادرة على رسم آفاق مفتوحة. ومن الضروري جداً ألا تبقى هذه المؤسسات خاضعة لمزاجية من يديرون شؤونها، أو من يحملون حقيبة المستهلك. ما قدمه الغربي لا يمكنه إنقاذ مؤسسات التدخل الإيجابي من ترهلها، هي محاولات بائسة للخروج من عنق الزجاجة، ومنع مغادرتها الطوعية من السوق المحلية. إذ تتعامل هذه المؤسسات بعقلية تجارة المفرق، وليس بذهنية وأفق كبار رجال الأعمال. تُقزّم موقفها، تختزل دورها، تجتزئ وظيفتها، وهذه المقدمات لإكمال الانسحاب من الأسواق. يخطىء من يظن أن التجارة الداخلية، هي مجرد تجارة تجزئة، إنها عملية اقتصادية متكاملة، ذراع تدخلي للدولة، حضور يقف خلفه مدى قوة الحكومة تحكّماً بالأسعار، وتوفيراً للسلع في الأسواق. 

العدد 1140 - 22/01/2025