خطوات مبدئية بانتظار الفعالية

لا يمكن لأي كان أن ينكر ظواهر الارتقاء الاقتصادي مقارنة بما وصلنا إليه، نتيجة ما نجم عن الحرب المعقدة والهادفة لقتل الجسد والروح السورية وتدميرها بحيث تصبح بقايا دولة فاشلة منهارة. وأصدق ما يدل على ذلك هو حجم التدمير الذي نفذته قوى الإرهاب أو داعموهم من دول وحكومات، فقد طال التدمير أغلب البنى التحتية: تعليمية، صحية، جسور، أبنية ومعامل، وكذلك أغلب الكفاءات، وتوسيع حجم الدماء، وما يؤكد ذلك الرهان على الإسقاط الاقتصادي للدولة السورية، ورغم ما سلف كان هناك صمود غير مسبوق شعبي ومؤسساتي مقوى بحجم تراكمات اقتصادية ومالية سابقة نتيجة سياسات انطلقت من الواقع ولامست متطلبات الجماهير، وأوجدت المسارب الضرورية للوصول بالتنمية، بمختلف أنواعها، إلى أبعد ما يمكن أفقياً وعمودياً، وبما يضمن شبه توازن حتى بين الريف والمدينة. هذا التوازن الذي كان الهدف الأهم لسياسات ما قبل الأزمة هو ضربه، وتهشيم البنى، وضرب الاستقرار ليتحول إلى وباء كارثي يستثمر لتنفيذ مآرب خارجية تتقاطع مع مآرب داخلية لقوى متناغمة ومعتمدة من قبل الآخرين. ورغم ما سبق ذكره لم تكن الإدارة الاقتصادية بجوانبها المختلفة المادية والمالية والنقدية والخدمية للأزمة بما يماهي قسوة ما يحاك ويفعل، وإنما كان هناك سلوكيات مبهمة غامضة انعكست على معيشة المواطن الصامد الصابر البيئة الحاضنة لأبطال المؤسسة العسكرية الرقم الصعب في الحفاظ على الأرض والعرض وصون الدماء. وما يؤكد كلامنا هو القيام بخطوات توضح صحة رؤيتنا سابقاً، والتقصير في معالجة أمور كثيرة تخص معيشة المواطن والوضع الاقتصادي بشكل عام.

فرغم القيام بإجراءات شكلية وهيكلية تتماشى مع ظروف الأزمة وتخفف من أعبائها، لم تستثمر هذه الهياكل الاستثمار الصحيح، ومنها وزارة حماية المستهلك، فبعد عام على بدء الأزمة في البلاد، وتحديداً 2012 سارعت الحكومة إلى فصل وزارة التموين سابقاً عن وزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية، وسمي المولود الجديد وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك، وسلحت بقوانين قيل عنها آنذاك: إنها الأكثر عصرية وحداثة، وأنيطت بها مواجهة آثار الأزمة الاقتصادية، ولاسيما الجانب المتعلق بارتفاع الأسعار والخلل الحاصل في الأسواق، لكن بعد خمس سنوات على وجود الوزارة يحق لنا أن نسأل عن الإنجازات المحققة، ولاسيما تلك المتعلقة بحماية المواطن من الاحتكار والجشع من التجار؟ فبعد أن أجمع أغلبية المواطنين على الأداء السلبي للوزارة أثناء الأزمة، مسجلين تذمرهم وسخطهم الكبير للوضع المأسوي الذي وصلت إليه حال الأسواق والارتفاعات الجنونية لأغلبية السلع والمواد المتفلتة من كل القوانين والأعراف، مؤكدين غياب الرقابة التموينية، مطالبين بسحب ملف التسعير والرقابة على الأسعار منها، لفشلها الذريع فيه وتلطي أغلبية العاملين في القطاع الرقابي خلف هذا الملف لتحقيق مكاسب مادية غير مشروعة على حساب المواطن ولقمة عيشه. واعتبر المواطنون أن التجار قد أكلوا البيضة وقشرتها، وأنهم أسياد السوق الحقيقيون المتحكمون بآليات التسعير بلا منازع، متسائلين: هل محاربة الغلاء تكون عبر إصدار القرارات والتعاميم والتصريحات النارية والوعيد والتهديد؟

ورغم أن توقيت إنشاء هذه الوزارة كان ضرورياً بسبب ظروف الأزمة وتداعياتها، وضرورة تدخل الحكومة لضبط الأسعار من جهتين، الأولى التدخل الإيجابي في الأسواق من خلال مؤسساتها، والثانية من ناحية الرقابة والمتابعة المستمرة للأسعار، فإن الوزارة لم تنجح في الحالتين لأسباب ذاتية وموضوعية، ولعدم وجود الأدوات والصلاحيات، وإن وجدت لعدم وجود النيات، فقد خلقت هذه الوزارة واستمرت كواجهة أو ديكور، عملها يحابي الاحتكار ويكرس أسعار السوق، ولم تخلق شيئاً جديداً يخدم المواطنين والأهداف التي وجدت لأجلها، فالأدوات الرقابية هي ذاتها التي كان يشتكي منها المواطن، هدفها الاستفادة وليس الضبط، أدواتها غايوية وليست وسيلة للعقاب والردع، ومؤسساتها تستجر بضائعها من التجار أنفسهم من دون قدرة على المنافسة وكسر الأسعار. في الأوقات الراهنة حصلت تغيرات هيكلية ونشاط واضح في عمل الوزارة، لكن بالعقلية والأسلوب السابقين نفسيهما، ولم تجدد الأساليب لتحقيق الأهداف، ورغم ذلك فإن طرح فكرة إلغاء الوزارة أو إقصاء ملف التسعير والرقابة عن صلاحياتها، وتداول ذلك سابقاً كان خطأ، ولكن يجب الترميم والإصلاح لضرورات المصلحة العامة والظروف الأزموية، ولاسيما بعد طرح مشروع التطوير الإداري الذي يجب أن يكون منطلقاً لتحديد الإمكانات والحاجات لتحقيق الأهداف، مع ضرورة الاستمرار بالمراقبة والمتابعة والمحاسبة المستمرة الدائمة.

إن امتلاك ووجود أدوات حكومية لفرض ما يناسب المواطن ضروري في ظروف الأزمة الراهنة، والإجراءات التي اتخذت في الفترة الأخيرة بخصوص أسعار بعض السلع وترافقت بزخم إعلامي، أغلبه إعلاني، هي دليل القدرة في حال توفر النوايا، وكان الضوء يسلط على عمل مجد وجهد فوق عادي لكسر الأسعار عبر حملات مستمرة لبعض السلع، ولكنه قوبل بتأفف جماهيري، فما زالت السلع الأساسية بيد قلة من المحتكرين، علماً أن الاحتكار حالة قديمة سابقة للازمة لأغلب السلع الأساسية، سواء اعترفت وزارة التجارة الداخلية فيه، أو لم تعترف، وأن البعد عن إعطاء السلع بأسعار منخفضة نسبية بذريعة رفع الدعم وإعجازات التسميات مثل توصيل الدعم لمستحقيه، أو رفعه، أو عقلنته مميزة، وخاصة للسكر والشاي والزيت وغيرها، كرس الاحتكار لهذه المواد من قبل قلة محصورة العدد، وحتى مصانع الحكومة من السكر ضاقت بالمخزون ولم تتدخل الحكومة، وقد كانت الحملة الكبرى على الشاورما والمتة، علماً أن مادة المتة ليست أساسية، وبالتالي سلوك الوزارة لا يوصلنا إلى الغاية النهائية في التدخل الإيجابي الذي أهم أسسه هو الاستيراد المباشر للمواد بما يؤدي تلقائيا لكسر الأسعار، ومن ثم الخوض بالتسعير الإداري العادل، وإن حملة كسر الأسعار على بعض السلع من قبل الوزارة المعنية دليل على ما كان يتعرض له المواطن من غبن، وما تمتع به أصحاب النفوس المريضة من جشع… وكلنا يعلم أنه في ظل الأزمات والتعافي هناك قوانين استثنائية غايتها الانطلاقة الصحيحة للاقتصاد وتأمين مستوى معيشي للمواطن، في البدايات قد تكون الإدارة الاقتصادية عملت ضمن منطلقات عامة همّها الأمان الاقتصادي القائم على الاستمرارية الاستراتيجية ضمن محددات العقوبات والحصار والابتزاز. للحفاظ على الاحتياطات والاعتماد على قلة ثقافة بالنسبة للحكومة.. ورغم ذلك التعافي وانفراج الأوجاع يجب أن يرافق بسياسة جديدة، تعتمد على إصلاحات إدارية تصيب الهياكل والأدوات والكوادر والتشريعات بحيث تكون العقوبات ليست غاية وإنما هي وسيلة، والحملة الأخيرة ووفق معطيات غير مناسبة من حيث كوادر سلوكها السابق يتوجه الفساد المتغاضي عن فوضى الأسعار والاحتكار والنوعية، وهذا لا يستطيع أحد نكرانه خلال الأزمة، وقوانين مطاطية تصيب من تريد وتحمي الآخرين، ووسط آليات مضبوطة لمنع التسعير المتدحرج من جهة، ولتفوق المحتكرين بقلتهم على أي مورّد جديد، وعرقلة مؤسسات التجارة الخارجية أو مؤسسة التجارة عن التوريد المباشر، ومهما أبدعت الوزارة بالانضباطية وتطبيق القوانين تبقى هوامش الفائدة المنعكسة على المواطنين قليلة، في ظل استمرار سعر الصرف وفق أسعار الطاقة المنعكسة على ارتفاع أجور النقل وتكلفة الإنتاج.وهنا يلوح بالفكر: ما هي السياسة النقدية المتبعة؟ ولمَ لم ينعكس الانتعاش الاقتصادي والاستقرار القائم على انتصارات المؤسسة العسكرية على سعر الصرف، ما دام هذا السعر يتأثر بما خسرته الدولة آنياً من أراضٍ، وفي ذروة الظروف الصعبة الطبيعية بعيداً عن المضاربات واللعب الداعية لتدمير الاقتصاد عبر قتل الليرة لم يتجاوز السعر 470 ليرة، طبعاً بعد القفزة الكبيرة الآنية لحدود 620 ليرة، واستلم الحاكم الجديد الدولار ب470 ليرة وسط ظروف متطورة نحو الأمان والانتعاش الاقتصادي وتطور الاقتصاد الأفقي والعامودي وبيئة داعية للاستثمار وإشارات اقتصادية متفائلة وتصريح خطير لحاكم المصرف عن ضبطه للسعر بما يحافظ على قيمة الدولارات للذين اكتنزوها بدل الليرة، وهل هذا واجب المصرف لأشخاص ساهموا بالمضاربة على الدولار؟ وماذا سيقدم لمن رفض تبديل العملة السورية وحافظ على ما يحتفظ به ونزلت قيمته 10 أضعاف. وما الفائدة من سعر صرف كهذا؟ وقد كانت السيرورة تتجه نحو الانخفاض الحاد بسبب تخوف المكتنزين أو المحتفظين فالاكتناز للذهب عادة،هل هناك مخطط لجلب سيولة فائضة عبر توسيع الاعتمادات مترافقاً بتوسيع المستوردات أم أن سياسة دعه كما هو فلا نحاسب مخطئين أم أن هناك قوى داخلية أو خارجية تمنع تخفيضه وخاصة كلنا يعرف أن انخفاض سعر الصرف سيؤدي لخفض الأسعار وسط تكامل التعامل الحكومي ما سيمكن من خفض أسعار الطاقة وبالتالي سينعكس على جميع السلع وهو ما يؤدي لتحسين أشمل وأوسع أفقي وعمودي لمستوى معيشة المواطنين وهو كان الحل المقترح من أغلب الواقعيين العقلاء بدلاً من زيادة الأجور ذات المنعكسات السلبية الكبيرة تضخمياً أو تمييزياً علماً أن أكثر من أذته الأزمة أصحاب الرواتب والأجور بشكل عام وسط فوضى الأسعار والذي كان غالباً يترافق مع فوضى أسعار الصرف.

إن للسياسة النقدية وفق برنامج واضح يتماهى مع أولويات الحكومة المتوافقة مع حاجة البلد والمواطن دور أساسي وهام في الانطلاقة الاقتصادية بكافة قطاعاتها بما في ذلك القطاع الزراعي والذي حقق لنا الأمن الغذائي عندما كان هناك تشاركية بين الفلاح والحكومة عبر تأمين المستلزمات وتحقيق البنى التحتية وتسويق أغلب المحاصيل،ويجب أن يعلم مسؤولينا ما ينجم عن تصريحاتهم من انعكاسات نفسية ومادية وأن الدم السوري ومن وقف مع الوطن هم الأحق بسياسات الحكومة وليس كما صرح مسؤولنا النقدي، وكلنا يعلم تصريحات النائب الاقتصادي أول الأزمة بأن قلب الاقتصاد السوري يتدمر، واستمر الاقتصاد بعد ذلك 5 سنوات بصمود أسطوري رغماً مما تسبب به التصريح من ضغط على سعر الصرف والسلع، وكذلك كان لافتاً بشكل إيجابي إعادة شاملة لتقييم مؤجرات الحكومة للمستثمرين بمختلف حجم استثماراتهم وتحقيق فوائض وإعادة أموال كانت مسلوبة ولو عبر قوانين وقعت من قبل الفاسدين وهادري أموال الحكومة. وهذا التصرف كان يحتوي إن وضعناه تحت المجهر غبناً للحكومة بسبب عدم رجعية القوانين ومحاسبة الفاسدين، وإن من نظر إلى أنها قوانين إذعان لا يعلم ماذا تعني الحكومة، ولا يعلم صلاحياتها ولا يعلم أن القوانين وضعية تتغير حسب الضرورة.

إن الإجراءات الأخيرة تدل على القدرة إن توفرت النوايا، وتخبئ ببواطنها تقصيراً سابقاً مقصوداً أم إهمالاً وتقصيراً؟ لا نعرف، ولكن ما نعرفه أن خدمة المواطن يجب أن تكون هي المعيار، وأن هؤلاء عينوا لخدمة الوطن والمواطن والمؤسسة العسكرية حامية العرض والأرض ولا يجب أن يكونوا عبئاً عليهم وسبباً من أسباب مأساتهم. وما نجده من تصريحات وتنظيرات أغلبها دعائي ما لم يصل إلى السلع الأساسية المنعكسة على مستوى المعيشة. فمثلما أحسسنا بالأمان بعد ما حققته المؤسسة العسكرية، لن نصدق الإدارات المدنية من دون انعكاس سياساتها على معيشة المواطنين ورفاهيتهم… وإن الحملة الإعلامية والفرض القوي للقوانين لو توسعت على السلع الأساسية وعلى المواجهة والإحاطة بالفاسدين. ولكان سلوك بناء بما ينظر للتكاليف وان يكون هذا السلوك مستمراً.

إن المرحلة القادمة يجب ان تكون تنموية غايتها تحسين معيشة المواطنين عبر كسر الأسعار وتحسين صرف الدولار… كسر الاسعار من دون تدخل مباشر للحكومة عبر شراء مباشر للسلع وزيادة وتوسيع عدد الموردين للمواد… وكذلك توسيع السلع التي يجب إعادة النظر بها، لنصل إلى الوقود ذي التأثير الإيجابي التلقائي على مختلف نواحي المعيشة.

العدد 1140 - 22/01/2025