جذوة الحب تحت رماد الحرب…العشق المؤجل
تلوح دمشق وجعاً متشحاً بالأسى يغطي سهول النفس والروح في آن معاً.. فها هي ذي رمم العالم الجديد وبلاء الحرب والدمار والخراب والقتل وروائح القيم المضادة للرغبات الإنسانية تطل كلها من مداراتها، فتتحول دمشق إلى ساحة حرب ويتحول أبناؤها إلى وقود لتلك الحرب..
دمشق هي ذلك الأقيانوس المزدهر بالغبطة والياسمين، هي الحب المسكون المستوطن في الضلوع وحنايا الروح تعلّم عشاقها الجنون الأبدي الذي يحيي ويميت.. مدينة الحب وحيث لاحبّ الا فيها، استوطنتها الحرب رغما عنها فانكفأ العشاق فيها يطوون مسيرة عشقهم ويلتفتون صوب الجبهات حيث الحرب بأبشع صورها، واستبدلوا بالورود البنادق، وبالعطور روائح البارود، وبأنين القلب والوله أنين الجراح وأوجاع الكسور والشظايا.. عشاق تلك المدينة غيّروا عناوين ومواعيد عشقهم فلم يعد نبض الزمان للحبيبة وحدها، بل رهن التاريخ كله لمقارعة أعداء الحياة القادمين من المجهول والفائضين عن الإنسانية المتشبهين بالوحوش والضباع، تكفيريّي الحياة والموت وما بينهما من برزخ اخترعته عقولهم وعقول مشايخهم مشايخ الفتنة..
حتى أنت أيها الحب.. مؤجل إلى حين انتهاء الحرب شأنك شأن كل متاع الحياة، ففي الحرب يكون عار التحدث عن الجمال والصفاء وملذات النفس والهوى والعشق في الوقت الذي يموت فيه الأطفال ويستشهد الشباب وتترمل النساء وتتهدم البيوت والأحلام.. ولكن ما القول في الموجة التي تتحطم ولا أحد يسمعها؟؟ وما القول في حقل الليمون يبثك رائحة زهره في يوم ربيعي؟ وما القول في تلك العاطفة التي تأتي للمرء على حين غفلة فتلهب روحه قبل قلبه، فيسمعها نغماً شجيّاً يحيل السواد إلى بياض ويتآلف مع نبض قلبه فيخفق بحب الحبيب ويأبى سواه في الدنيا نصيباً؟؟
الحب ذلك القدر الغافل عن أي تخطيط وتدبير وموعد، يضرب الطرفين فينصاعان برضاهما نحوه ويتلذذان بالغرق في بحاره.. ويهيمان في سماواته متناسين أية قيود أو عراقيل.. ولكنها الحرب التي تدفن كل الآمال وتؤجل كل المشاريع وتخمد كل العواطف والمشاعر.. إنها الحرب التي وقفت في وجه الحب في سورية، وفرقت الأحباء ومزقت مواعيدهم وشتّتت أحلامهم في تكوين أسرة. فماذا يقول الجندي الذي أكمل الست سنوات في الحرب لحبيبته التي مازالت تنتظره؟؟ كيف لي يا حبيبتي أن أبارح مهجعي وأترك سلاحي لأعيش معك قصة حبنا؟؟ وكيف لي أن أطمح لوصالك وتحقيق مأربي بقربك في بيت وأنا لا أملك إلا راتباً أعين به أهلي الفقراء والمحتاجين لمساعدتي؟ لا تنتظريني يا حبيبتي فالعدو أمامي والفقر من خلفي وكلاهما مُرّ وكلاهما ينتظران مقارعتي.. وأنا مشروع شهيد فالأعداء كثر ولا أريد لأولادي أن يحيوا عيش اليتيم..
وفي المقابل تقول الفتاة المجبرة على الهجرة إنها تركت قلبها مع حبيبها وهاجرت، لأن العيش هنا أصبح خطِراً، ولقد ألح حبيبها عليها ألا تهاجر ولكنها مجبرة.. فقام بإنهاء العلاقة وبترها بعد سنوات من الحب والتفاهم لبناء أسرة.. ولتنتهي رؤى الأحلام بواقع مفروض اسمه الحرب.. وعلى الضفة الأخرى من واقع الحياة المرير في ظل الحرب هنالك عشاق ألهبهم الحب فأوقد جذوته في قلوبهم، ولكن الوضع المادي يحيلهم إلى عاجزين عن تأمين مستلزمات الاستقرار الزوجي وتكوين الأسرة وخاصة بعد موجة الغلاء الفاحشة التي حلت بالبلاد إثر الحرب، ويتفق العاشقان على العيش كحبيبين دونما ارتباط جدي يتيح لهما تتويج قصة حبهما بالزواج والاستقرار..
أما أصعب أنواع الحب فهو ذاك الذي يحيل القلب إلى ركام، ونراه متجسداً بموت الحبيب أو فقدانه كما حصل مع الكثيرات اللواتي فقدوا أحباءهن وتركوا لهن الحسرة واللوعة وفقدان الرغبة بإكمال مسيرة الحياة دون الأحباء.. الحب هنا يتحول إلى وجع ما بعده وجع فلا أمل بعودة الأموات.. ولإرجاء من حياة أقحم الموت نفسه فيها فأحالها إلى سراب..
وهكذا يمضي الوقت زمن الحرب مسموماً بعذوبة الذكريات ومغلفاً بحسرة اللحظات الحميمة بين العشاق.. لحظات تثقل الأرواح ولسان الحال يقول: لم يتركني لأنني أنا الذي لا يريد تركه ولا الاستغناء عن عذوبة لحظاتي قربه.. رغم كل الأوجاع ورغم الحرب.. سيبقى الحب مؤلهاً متسامياً عن كل وصف منزهاً عن كل ما يطفئ جذوته حتى لو طمر تحت رماد الحرب وحتى لو فارق الأحباء بعضهم، سيبقى ذلك الوله القدسي الأبدي الذي يرفض التقهقر ويرفض الاستسلام.. شأنه كشأن دمشق العصية على الأعداء والعصية على النسيان.