بوتين وأوباما وفرضية الضعف والقوة؟
يطيب لبعض من يتابعون الشأن السياسي في العالم، أن يروا في نجاحات الرئيس الروسي (بوتين) في المنطقة العربية والعالم أنها مجرد تعبير عن إخفاقات سياسة الرئيس الأمريكي (أوباما) والبيت الأبيض في الحفاظ على الدور المركزي في مناطق لهما فيها نفوذ كبير. في الحقيقة، مثل هذه الرؤية هي رؤية رديئة أو قراءة (داروينية) قاصرة للنظام الدولي غير صالحة لفهم تعقيداته.
وهذه القراءة، من جهة أخرى، فيها إجحاف وظلم كبيران بحق الرئيس بوتين، لأنها تعني أن بوتين وروسيا أضعف من أن يكون لهما سياسة فعالة في الشرق الأوسط وغيرها من المناطق يؤيدها حلفاء وأصدقاء يعترضون على سياسة أمريكا، وتعني أيضاً أن أمريكا ضعيفة برئيسها الحالي أوباما، وأنه ما إن يذهب حتى تستعيد السياسة الأمريكية عافيتها، وتنكفئ قوة الدفع التي صنعت للسياسة الروسية عنفوانها ونجاحاتها المهمة. إن مثل هذه الافتراضات تزوّر الحقائق الموضوعية.
إن الذين يعتقدون أن الرئيس بوتين أضعف من أن يتحول إلى لاعب سياسي كبير في المنطقة والعالم، ينافس الدور الأمريكي ويفرض عليه تراجعات اضطرارية هنا وهناك، مازالوا يخالون أن روسيا بوتين هي روسيا غورباتشوف، أو روسيا بوريس يلتسين، أين تلك الروسيا التي تداعت وسقطت في الأوحال، وأهانها الغرب وأذلّها كبير إذلال، مستفيداً من بؤس قيادتها السياسية وفساد تلك القيادة في عهد من دمّر كيانها السوفياتي (غورباتشوف) وفي عهد من كاد أن يدمر البقية الباقية من اتحادها الفيدالي الروسي (يلتسين)؟!
هؤلاء يجهلون أو يتجاهلون أن الرئيس بوتين أتى إلى السياسة من تجربة طويلة وغنية في أكبر جهاز مخابراتي سوفياتي (الكي جي بي) ومدعوماً من الجيش الأحمر الذي أهانه يلتسين، ومحمولاً على أصوات أكبر وأضخم كتلة ناخبة في روسيا، منذ نهاية العهد السوفياتي في عام 1991، كما أنهم لا يعرفون أن الرئيس بوتين جاء على الكرملين بمشروع إصلاحي كبير وشامل لإعادة بناء دولة كبرى ذات تاريخ شريف في البناء الحضاري منذ عهودها القيصرية، من الناحيتين الاقتصادية والعسكرية، وأن هذا المشروع الإصلاحي أعطى نتائجه الكبيرة والمبهرة في أقل من ثماني سنوات، وجعل روسيا تستعيد عافيتها، بدءاً من محيطها الجيوسياسي المباشر، إلى أماكن أخرى كان لها فيها نفوذ. وهنا يمكن الإشارة إلى أن عصر المحافظين الجدد في أمريكا وما تخلّله من حروب ظالمة في أفغانستان والعراق وتداعيات ذلك من استنزاف عسكري وأزمة مالية خانقة جاء عاملاً مساعداً استفاد منه الرئيس بوتين في إعادة بناء بلده.
ومع أن سياسة الرئيس أوباما اتسمت بالتردد والتسويف وعدم الوفاء بوعود كثيرة قطعها على نفسه، إلا أنه أنقذ الولايات المتحدة من سياسات خرقاء اتبعها بوش الابن وفريق عمله من المحافظين الجدد، مع العلم بأن المزاج الأمريكي العام ساعده على ذلك، إذ لم يعد هذا المزاج ميالاً إلى حروب تحصد أرواح أمريكيين وتلحق أضرراً كبيرة باقتصاد أمريكا ومستوى المعيشة، بعد تجربة تجرّع الأمريكيون مرارتها من حربي العراق وأفغانستان.
المهم أن الرئيس الروسي بوتين يتمتع بمؤهلات فكرية وقيادية متميزة، وأن نجاحات سياساته جاءت من هذه الزاوية، وليس من خلال ضعف الرئيس أوباما، وسيسجل التاريخ لبوتين بأحرف من ذهب أنه استطاع إنهاء العهد الذي كانت فيه الولايات المتحدة تسرح وتمرح في العالم كله حرّة طليقة لا تكبحها قيود، وجعلها تحسب فيه حساب غيرها من دول كبرى مثل روسيا والصين. هذا ما يجب أن يعرفه الجميع إنصافاً للحقيقة والتاريخ.