مدلولات في (الفوضى الخلاقة)

لقد سعت الولايات المتحدة منذ معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية عام 1978 إلى التفكير جدياً بإعادة تقسيم الشرق الأوسط من جديد. وقد صاغ هذا المشروع، خلال فترة زمنية قصيرة نسبياً، عدد كبير من المفكرين والخبراء والسياسيين، مثل برنارد لويس وهنري كيسنجر وزبيغينيو بريجنيسكي وروبرت ساتلوف وجين شارب وبيتر اكرمان ومايكل ليدين وغيرهم، ممن صاغوا مفهوم (الفوضى الخلاقة)، في معناها السياسي الحالي. واعتمده المحافظون الجُدُد في الولايات المتحدة مع بداية هذا القرن، لتغيير الأنظمة العربية والإسلامية، مثلما حصل في العراق وتونس وليبيا، وسورية حالياً.

وأُعلن عن هذا المشروع في 9 نيسان 2005، في لقاء صحفي لوزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزا رايس مع صحيفة الواشنطن بوست الأمريكية، في ذلك اللقاء أعلنت رايس رسمياً نية الإدارة الأمريكية نشر (الديمقراطية) في العالم العربي وتحسين أوضاع الشعوب العربية نحو تشكيل (الشرق الأوسط الجديد). لكن الحقيقة ليست كذلك (فبينما تقدّم الولايات المتحدة خدمة «لسانية» للديمقراطية، فإن التزامها الحقيقي هو للمشروعات الرأسمالية الخاصة. وعندما تتعرض حقوق المستثمرين الامريكيين للتهديد، فعلى الديمقراطية أن ترحل، ولابأس أن يحل محلها حكام التعذيب والقتل!)- هكذا قال نعوم تشومسكي في كتابه (ماذا يريد العم سام؟).

لقد وُجدت (الفوضى الخلاقة) لخلق نظم سياسية جديدة فعَّالة، بعد تدمير النظم القائمة أو إعادة تَدْجِينها، في عملية تغيير تتسم بالسرعة والعدوانية، عبر تفعيل التناقضات الراهنة كما حصل في البلدان العربية، والدفع بهذه التناقضات إلى النهاية، حتى لو أدت هذه الفوضى إلى إسقاط النظم الحليفة والموالية للولايات المتحدة، والمثال الأبرز نظام حسني مبارك، للوصول إلى بنية سياسية شرق أوسطية تخدم مصالح القوى الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة.

إن التقدم في (الفوضى الخلاقة) يتم عبر القوة الناعمة، كما وصفها كل من جورج سوروس في الفاينانشال تايمز في أيار عام 2002، وجوزيف ناي، في مجلة فورين آفير في حزيران 2004، وقد اعتبراها الوسيلة المناسبة لتحقيق المصالح الأمريكية بدلاً من صدام الحضارات، الذي يجري فيه استخدام العمل العسكري والذي يؤدي بالضرورة إلى التعرض للخسائر البشرية والمادية التي تقتضيها الحروب. هذا ما بدا واضحاً في عام 2013، بعدم رغبة الولايات المتحدة التعرض لأي خسائر من عمل عسكري كاد أن يُنفّذ ضدّ سورية، والقبول بتفكيك الترسانة الكيميائية عبر المنظمات الدولية بدلاً من ذلك.

يمكن أن نعتبر أن (الفوضى الخلاقة)، منطلق فلسفي للخطاب الثقافي الأمريكي منعكس عن الليبرالية الجديدة الحاكمة فيها، وكيفية فرضها على العالم أسس أبستمولوجية جديدة للحقيقة. وهي بناء فكري معرفي شُيّد عبر العديد من المؤسسات الفكرية والإعلامية والاقتصادية والاستخباراتية الغربية والإقليمية التابعة لها. التي تركزت جهودها على الطبقات العاملة، وشريحة الشباب، والأقليات الدينية والعرقية في دول العالم الثالث، الذين يعانون من الأنظمة الاستبدادية؛ ليكونوا شرارة البَدْء في تحريك الساكن وتهيئة الظروف لإعادة ترتيب الوضع في بلدانهم وفق ما ترتئيه مصلحة الولايات المتحدة. مع الاستفادة من التحالفات الجديدة الناشئة لضمان السيطرة على التوازنات المحلية. يتبعها تكريس مناخ ثقافي يخلق للمنظومة الفكرية الغربية بيئة آمنة للاستيطان المعرفي في وعي المجتمعات المُستهدفة، بمعزل عن تأثير النُّخب الثقافية والسياسية الحاكمة المحلية التي يمكن أن تؤثر على تلك المجتمعات، وربط هذا الاستيطان المعرفي عبر تكنولوجيا المعلومات واقتصاد المعرفة مع ثقافة العالم الغربي بشكل مباشر. واعتبرت أولى الأمثلة عن نجاح الفوضى الخلاقة ما حدث في أوكرانيا وأوربا الشرقية عموماً، وهي تشبه إلى حد كبير ما خطط للربيع العربي في الشرق الأوسط الذي بدأ من تونس في نهاية عام 2010.

العدد 1140 - 22/01/2025