التبعية السعودية وحمام الدم السوري
على الرغم من فهمنا للجانبين الذاتي والموضوعي للحدث السوري 2011 لكن لمجرد التلميح إلى العامل الخارجي كانت تنهال الاتهامات الغزيرة بأننا نرمي أسباب فشلنا على الآخرين، ونحمّل الخارج تبعات مشاكلنا الداخلية، ونهرب من مواجهة أخطائنا.. الخ.
ثم بدأت تتوالى الفضائح من أعلى المستويات، باعتراف رولان دوماس وزير الخارجية الفرنسي السابق والمفكر الصهيوني الفرنسي برنارد هنري ليفي المشرف على تنفيذ مؤامرة (الربيع العربي) وانتهاء باعتراف (حمد بن جاسم ) الأخير لـ (بي بي سي) ومنه أن السعودية دفعت 50 مليون دولار مقابل انشقاق رئيس مجلس الوزراء السوري (رياض حجاب) وأن لها ولفرنسا دوراً في انشقاق (مناف طلاس) والمئات غيره، وفي النشاط الموكل لـ (سعد الحريري) وغيره في الحرب على سورية، واختتم حمد بالقول: (لعبنا دوراً كبيراً في تدمير مصر وليبيا وسورية واليمن، وجميعها كانت بأوامر أمريكية)!
لم نكن ننتظر الاعترافات لنكتشف فداحة الدور الخارجي، فالحرب على سورية كانت الحلقة الأكثر فظاعة ودموية من مسلسل العدوانية الدولية الإقليمية التي ميزت طبيعة علاقات التبعية في المنطقة، والسعودية نشأت داخل تلك البؤرة السرطانية مذ وضع الأمير عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود نفسه في خدمة التاج البريطاني في معاهدات 1902 و1915 واتفاق 1916 في البصرة على أوجه التعاون الإستراتيجية في المستقبل، والتي قدم على أثرها ضابط المخابرات في مكتب المستعمرات البريطاني (جون فيليبي) الذي دعي بالشيخ عبد الله إلى السعودية عام 1917.
أواخر عام 1915 كان (برسي كوكس) كبير ضباط الجيش البريطاني في بغداد، قد جند الكاتب المستعرب (جون فليبي) وكلفت (كروترود بل) من المخابرات الحربية بتعليمه فنون التجسس قبل أن يصبح صديقاً حميماً لعبد العزيز ومحركاً لحروبه ضد خصومه، ومستشاره السري في بسط نفوذه على شبه الجزيرة، وفي الشؤون الخارجية ووصلت ثقة عبد العزيز به حد تعيينه مسؤولاً عن تتويجه ملكاً على السعودية عام 1925 ولم يمضِ عام 1927 حتى اعترفت بريطانيا بالمملكة السعودية، وكانت بعثاتها تشرف على تشكيل قطعاتها العسكرية.
(جون فيليبي) ارتبط بعلاقات واسعة شملت (لورانس العرب) و(ألن دلاس) الذي ترأس فيما بعد جهاز المخابرات المركزية الأمريكية و(وينستون تشرشل) و(بارون روتشيلد) و(حاييم وايزمن) رئيس الحركة الصهيونية حينذاك، وكان يدفع راتباً شهرياً للملك السعودي مقداره خمسة آلاف جنيه استرليني من الحكومة البريطانية قبل أن يدعو عام 1931 رجل الأعمال الأمريكي (تشارلز كرين) إلى جدة للتنقيب عن النفط، ثم وقّعت شركة (أرامكو) عقد امتياز حصري في السعودية لمدة 60 عاماً اعتبارا من 1933.
كان ذلك بداية حلول المتبوع الأمريكي محل البريطاني وبدأت مرحلة متطورة من علاقات التحالف، فشركة أرامكو تعود أساساً لعائلة روكفلر المسيحية المتصهينة التي تعتبر إلى جانب روتشيلد ومورغان أقوى وأثرى ثلاث عائلات في العالم، برزت في الصناعة والسياسة والصيرفة وتمويل النشاط التبشيري الديني، وبسيطرتها هذه امتلكت سلطة تنفيذية تتحكم بالسياسات داخل أمريكا وخارجها، وشركة أرامكو لم تتحكم فقط بإنتاج النفط بل حددت سياسات العالم العربي ومستقبله كله. وهي التي أسست المدن السعودية الحديثة وبنيتها التحتية والمدارس والمطارات وشركة الخطوط الجوية والتلفزيون الرسمي والجيش والقوى الأمنية السعودية، وتولت تأمين بيع الأسلحة الأمريكية للمملكة التي غدت مرهونة بالكامل لدرجة أن الرئيس الأمريكي (روزفلت) صرح عام 1943 أن الدفاع عن السعودية يعد أمراً حيوياً بالنسبة للدفاع عن الولايات المتحدة، وقد التقى بعد ذلك بعامين مع الملك عبد العزيز على ظهر بارجة أمريكية وبحثا مسألة تأسيس دولة يهودية في فلسطين وتأسيس قواعد جوية أمريكية في السعودية، وفي العام ذاته 1945بعد صعود الرئيس (ترومان) أرسل وعوده إلى الملك السعودي بأن إدارته تتكفل بحمايته من النفوذ السوفييتي.
منذ اعتراف واشنطن بالمملكة السعودية 1940 كان الهدف الأساسي من تحالفهما تشكيل حائط صد للتوسع الشيوعي المزعوم، وقد تبنت إدارة (ترومان) رعاية تيار الإسلام السياسي لتحقيق ذلك الهدف، واختير (سعيد رمضان) أحد تلامذة (حسن البنا) لنشر خلايا حركته الإخوانية وتوجيهها في فلسطين وسورية والأردن والباكستان ضد التيارين القومي والماركسي، ثم تشكيل خلايا دولية ابتداء من ألمانيا برعاية تامة وفائض من الدعم المالي من الإدارة الأمريكية والسعودية وشركة أرامكو.
لم تكن السعودية منبع كل مشاكل المنطقة فقط من خلال تبعيتها للندن وواشنطن في خلق الكيان الصهيوني وتيار الإسلام السياسي، وهما الأداة التنفيذية للعنف والسادية الامبريالية، والخطر الأكبر المهدد لعالمنا اليوم، بل أيضاً من خلال شراكتها الدائمة في جميع المؤامرات على سورية، وكانت تحت مظلة مبدأ أيزنهاور 1957 جزءاً من مؤامرة (هيوارد ستون) المسؤول الأمني في السفارة الأمريكية بدمشق للإطاحة بالضباط الوطنيين في الجيش السوري، ولهجة تحريضها للولايات المتحدة لضرب سورية عسكرياً منذ ذلك الوقت واضحة في الزاوية الخاصة بالكاتب محمد حسنين هيكل في الأهرام بعنوان (بصراحة) وخاصة ما ورد بتاريخ 16/9/1957، وتصريحات المتحدث باسم الخارجية الأمريكية لنكولن هوايت: (إن اهتمام الولايات المتحدة بالموقف في سورية واتجاهها إلى معالجته بالحزم والشدة يرجع إلى أن عدداً من جيران سورية العرب أبدوا للولايات المتحدة الأمريكية انزعاجهم الشديد من تطورات الأحداث في دمشق وطلبوا منها اتخاذ إجراءات عاجلة لمواجهة الموقف). وتظهر المقالة أن الملك (سعود) هو صاحب الطلب في رسالة موجهة إلى الرئيس الأمريكي (أيزنهاور) بتاريخ 25 آب من ذلك العام، وهو نفسه من دفع في العام التالي ما يزيد على 12 ألف جنيه إسترليني للسوريين (المقدم برهان أدهم، وعزيز عباد) والحاجّين (ماجد وأسعد إبراهيم) لشراء ذمم بعض الضباط السوريين من أجل إسقاط طائرة الرئيس (جمال عبد الناصر) خلال زيارته لسورية، وقلب نظام الحكم وفصل الوحدة السورية المصرية.
بين العامين 1962 تاريخ تأسيس (سعود بن عبد العزيز) الجامعة الإسلامية ومنظمة المؤتمر الإسلامي 1969 بطلب ورعاية أمريكية، دخل التحالف الامبريالي الأمريكي- الرجعي العربي، مرحلة المواجهة الدولية لما سمي بـ(الخطر الشيوعي)، حين كانت القضية الفلسطينية المحورية في أمس الحاجة لحشد الجهد القومي العربي، فقد بدأت واشنطن باستغلال ثمار خريجي الجامعة الإسلامية لتوجيه الشباب العربي المدفوع بالحماس الديني المتطرف نحو الجهاد ضد السوفييت 1979في أفغانستان ، ففتحت أبواب الدعوة على منابر المساجد ووسائل الإعلام السعودية، وترأس الملك الحالي سلمان بن عبد العزيز الذي كان أمير هيئة ملكية تضم مئات الشيوخ والأمراء لإرسال المجاهدين وتمويلهم بمئات ملايين الدولارات، تنقل إلى حسابات خاصة بالجماعات الإرهابية عبر وكالة المخابرات المركزية الأمريكية.
استمر التمويل حتى بعد خروج السوفييت وظهور تنظيم القاعدة أواسط التسعينيات. ويذكر أن تغييب القضية الفلسطينية عن وعي الأجيال الشابة وإحلال نزعة الفكر الوهابي المتطرف محلها ترك أثره البالغ على تلك القضية، وتفشى في مجمل حريق (الربيع العربي) وبشكل هستيري مكثف منقطع النظير في سورية لاحقاً.
بعد الانتهاء من (الخطر الشيوعي) 1991 نفخت واشنطن بالون العدو الجديد –الإسلام السياسي- لتأمين استمرار حروبها التي يستحيل من دونها التعافي من أزماتها المالية، وبين ليلة وضحاها تحول من وصفوا بالأمس بأنهم (ثوار الحرية) إلى إرهابيي اليوم الدوليين، وكان التابع السعودي مجبراً على الانقلاب على تلامذته كانقلابه على صدام حسين قبلهم، وهو ممول حربه على إيران.
عام 2005 استغلت المملكة اغتيال (رفيق الحريري) لرفع سقف التصعيد المذهبي بوتيرة متعاظمة، وخاصة بعد هزيمة الكيان الصهيوني في عدوان 2006، وبشكل جنوني غير مسبوق يضاهي الخطاب الصهيوأمريكي، فتكرس انقسام المشهد الإقليمي بين محوري المقاومة والتبعية، وانقسام الموقف الشعبي جذرياً وفق الانتماءات الطائفية والمذهبية المجرثمة كتجسيد مباشر للأجندة النظرية المعدة للمنطقة في الخارجية الأمريكية.
في ذروة الانقسام المزدوج، والتعبئة المتصاعدة للأحقاد والانفعالات دعا الإسلام السياسي للتظاهر في سورية 2011 مستغلاً العامل الداخلي لمصلحة الأهداف الخارجية في الهجوم على آخر قلاع حركة التحرر الوطني وثقافة المقاومة ومبدأ السيادة الوطنية وحق تقرير المصير، وكانت السعودية تؤمن تدفق الإرهابيين إلى الداخل السوري ودعمهم مالياً وتسليح مجموعاتهم المذهبية والطائفية، الجيش الحر وعشرات الألوية ومنها حوالي 30 من الألوية بقيادة الإرهابي النافق زهران علوش ،وهو ابن شيخ سوري مقيم في السعودية، هذه المجموعات وغيرها كانت تستهدف المدنيين وترتكب المجازر بحق العزّل، منها ثلاث مجازر كبرى عام 2013 في ريف اللاذقية وعدرا وخان العسل ، و2014مجزرة قبيلة الشعيطات و2015 مجزرة تدمر و2016 مجزرة الزارة ، قتل وجرح وخطف وفقد في تلك المجازر عشرات آلاف المدنيين عدا الذين حصدت أرواحهم التفجيرات المتنقلة والعمليات العسكرية والقصف العشوائي على الأحياء السكنية.
اعترف تقرير وزارة الخارجية الأمريكية الخاص بالإرهاب (2015) بالتمويل السعودي وطريقة جمع التبرعات وتحويلها من أفراد العائلات السعودية الكبيرة، كما أكد رئيس الوزراء ووزير الخارجية القطري السابق حمد بن جاسم أن الدوحة أمسكت بالملف السوري بتفويض سعودي، وأن الدعم العسكري للإرهاب كان يذهب لتركيا بالتنسيق مع واشنطن، وأن مخطط استهداف سورية بدأ منذ هزيمة الكيان الصهيوني في لبنان عام 2006.
كم كنا أغبياء لو لم نأخذ بالحسبان الطابع التبعي الاجرامي الذي نشأ عليه آل سعود ووجد من يعولمه ويغطيه، ودوره الوحشي في حمام الدم السوري نحن الذين لم ننسَ مقولة لينين: (تسعير الأحقاد الدينية وجد بهدف حرف نضال الجماهير ضد الجهل ..الخ)؟