بداية النهاية لعربدة إسرائيل في المنطقة

 سيدخل العاشر من شباط ،2018 كعلامة فارقة، في تاريخ المواجهة الإسرائيلية – العربية. فإسقاط الطائرة الحربية الإسرائيلية يرمز الى أكثر من حقيقة، أولها، أن الحرب التي تعرضت لها سورية على مدى سبع سنوات، وقادها الغرب الإمبريالي برئاسة الولايات المتحدة، ومشاركة تركية فعالة، وتمويل بلا حساب من دول الخليج بقيادة السعودية، ولعبت فيها إسرائيل دوراً مميزاً في نجدة عصابات الإرهابيين كلما واجهت مأزقاً.. هذه الحرب العالمية بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، كسبتها سورية من حيث الأساس، بمساعدة حلفائها. وبالتالي، إذا كانت سورية مقيدة اليدين أيام احتدام تلك الحرب في مجال التصدي لعدوانية إسرائيل، فإسقاط هذه الطائرة هو علامة فارقة على بداية مرحلة التصدي ووضع حد لعربدة إسرائيل في المنطقة. يقول الصحفي الإسرائيلي جدعون ليفي، في اليوم التالي لإسقاط تلك الطائرة، في صحيفة (هآرتس): (العنجهية الإسرائيلية ربما لم تنته يوم السبت (يوم إسقاط الطائرة)، لكنها تصدّعت بكل تأكيد، وفجأة غدا واضحاً أن إسرائيل ليست وحيدة في الشرق الأوسط؛ وحتى أن قوتها العسكرية الضخمة لها حدود). بينما علّقت صحيفة (نيويورك تايمز) على الحدث نفسه بقولها: (إن أحداث يوم السبت (يوم إسقاط الطائرة الحربية الإسرائيلية) أظهرت أمرين على نحو واضح: الأول أنه لا يمكن لإسرائيل التحرّك في سورية من دون حدود، وأن حرية إسرائيل للعمل في سورية باتت محدودة حيث ستواجهها بقوة من الآن فصاعداً القوى المشتركة المعارضة لها، والأمر الثاني أن روسيا باتت اللاعب المهيمن في المنطقة).

والحقيقة الثانية، أن قرار إسقاط هذه الطائرة، الأكثر تقدماً في سلاح الجو الإسرائيلي، لا يمكن أن يكون ردة فعل عاطفية، بل حصيلة تقدير، محسوب بدقة، ليس فقط لكل ما قبله، وإنما لما هو آت بعده، وأن إسقاطها بداية نهج جديد وليس حدثاً منفرداً وعابراً؛ من جانب آخر، يمكن أن يكون هذا الإسقاط مؤشراً على قرب فتح جبهة المواجهة مع إسرائيل، على امتداد شريط الجولان – مزارع  شبعا المحتلّين.. تباشرها حركة مقاومة سورية – لبنانية موحّدة؛ وهذا الاحتمال كان هاجساً توقعه  حكام إسرائيل، في الآونة الأخيرة، حين راحوا يستغيثون، دون جدوى، بكل من روسيا والولايات المتحدة، لتـامين منطقة عازلة، تحمي احتلالهم بعمق أربعين كيلو متراً داخل الأراضي السورية.

والحقيقة الثالثة، أن لجوء إسرائيل إلى طلب الوساطة من روسيا والولايات المتحدة لمنع التصعيد وإبعاد مشاركة حزب الله في هذه الأزمة، كان قد سبقه بأيام معدودة طلب مماثل، حين واجهت إسرائيل إرادة لبنان الموحّد، كما لم يسبق له من قبل، حكومة وشعباً وجيشاً ومقاومة، في منع محاولات إسرائيل التجاوز على حقوقه في الغاز الكامن في مياهه الإقليمية أو بنائها لجدار عازل على أراضيه.

هذه جميعها مؤشر على توجهات جديدة في السياسة الإسرائيلية، التي كانت تعتمد على ذراعها العسكرية لمعالجة مثل هذه القضايا، دون أي احترام للقوانين الدولية. بل إن التوجه لبناء الجدار مع لبنان، يناقض كل سجل إسرائيل في هذا الشأن، فقد كانت ترفض إقامة أية حواجز في وجه حرية حركة جيشها في أراضي الغير.. هذا التغير، بحد ذاته، مؤشر على إدراك حكامها، رغم المكابرة العلنية، تغيّر قوانين الصراع في المنطقة.

وإذا كان إسقاط هذه الطائرة، الذي اعتبره قائد سلاح الطيران الإسرائيلي حدث في غاية الأهمية منذ عام ،1982 يمثل علامة فارقة على تغيّر قوانين الصراع في المنطقة، فإن تأثيره بدا، ليس فقط على الإسرائيليين، بشكل أو آخر، بل وعلى أولئك الذين راحوا يراهنون بلهفة على التحالف مع إسرائيل ضد شعوب المنطقة وفي مقدمتهم حكام السعودية. فإسقاط الطائرة الإسرائيلية أصابهم بالوجوم وصمت القبور، عدا تبني الرواية الإسرائيلية بأن قرار إسقاطها هو قرار إيراني! ومعلوم أن حكام السعودية كانوا قد منعوا، من قبل، عقد قمة عربية تتخذ موقفاً، حتى ولو شكلياً، ضد قرار ترامب بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، وبدل ذلك، مارسوا الضغوط على القيادة الفلسطينية لقبول بديل عن القدس كعاصمة للدولة الفلسطينية، لتسهيل نجاح (صفقة العصر) الأمريكية، لتخليصهم من القضية الفلسطينية التي تقف عقبة أمام تحالفهم العلني والمكشوف مع حكام إسرائيل.

لكن تغير قوانين الصراع في المنطقة لصالح شعوبها، بقيادة محور المقاومة الذي يتسع وتتعاظم قدراته، يعزز من إمكانيات إفشال مختلف مشاريع محور الأعداء، من قوى إمبريالية وعلى رأسها الأمريكية وإسرائيل والرجعية العربية بقيادة حكام السعودية، وبضمن ذلك، بل وفي مقدمة ذلك (صفقة العصر)، بحيث لا يكون مصيرها أفضل من مشروع (الشرق الأوسط الكبير)، الذي طرحته إدارة بوش الابن مباشرة بعد غزوها للعراق عام ،2003 فحينذاك، كان نفوذ الولايات المتحدة ووجودها في المنطقة أكبر وأقوى بشكل واضح عما هو عليه اليوم، ومع ذلك أفلحت شعوب المنطقة بقيادة محور المقاومة، الذي لم يكن، آنذاك، في مستوى قدراته واتساعه الحالي، من إفشال ذلك المشروع.

وينبغي الافتراض بأن تكون القضية الفلسطينية في رأس الرابحين والمستفيدين من هذه التطورات الإيجابية. لكن تبقى نقطة الضعف الأساسية في موقف القيادة الرسمية الفلسطينية، التي تقف مشلولة الإرادة ومربكة، رغم أن ظهرها أصبح الى الحائط، بعد قرار ترامب نقل سفارة بلاده الى القدس. فحتى القرارات الأخيرة للمجلس المركزي لمنظمة التحرير، على تواضع هذه القرارات، تتدخل قيادة عباس لتجميد تنفيذها.

وإذا كانت هذه القيادة قد توصلت، بعد ربع قرن كامل، إلى عبثية المفاوضات مع إسرائيل بإشراف الولايات المتحدة، التي ليست ولم تكن في أي يوم طرفاً محايداً أو نزيهاً، فإن مجرد المطالبة، باستبدال التفرد الأمريكي، بإشراف دولي على أية مفاوضات لاحقة، غير كافٍ وحده. لقد كشف التصويت في مجلس الأمن الدولي والجمعية العمومية للأمم المتحدة حول القدس حجم التضامن الكامن مع قضية شعبنا العادلة؛ لكن تحريك هذا التضامن، على الصعيدين الإقليمي والدولي، إلى أفعال مؤثرة يتطلب، قبل كل شيء، تحركنا في أفعال حقيقية ضد الاحتلال وعلى مختلف الصعد، لا التنسيق الأمني معه، وتكبيل حركة شعبنا في مواجهة جرائمه التي لا تتوقف لحظة. إن صفعة طفلة كعهد التميمي، لأحد جنود هذا الاحتلال الذين اقتحموا بيتها ليلاً، كان كافياً أن يحرك موجة واسعة، على النطاقين الإقليمي والدولي، من العطف والتأييد لقضية شعبنا العادلة.

وإذا كان تحريك تضامن الشعوب العربية مع قضية شعبنا يكتسب، اليوم، أهمية خاصة، في ضوء تخلّي النظام العربي بقيادة السعودية، علناً، عن مسؤولياته تجاه هذه القضية، رغم كونها قضية قومية، ومخاطر إسرائيل الصهيونية ليست حصراً بالقضية الفلسطينية، واستبدال حكام السعودية بهذه المسؤولية القومية التوجه المكشوف للتحالف مع دولة الاحتلال، فهل التلميح الخاطف والغامض للرئيس عباس في اجتماع اللجنة التنفيذية الأخير، قائلاً: (نحن كسبنا العالم ولكن العرب مش معنا وخاصة في المواجهة مع أميركا)، يكون كافياً، وبخاصة في هذا الظرف، لتحريك تضامن الشعوب العربية؟ وأي عرب يعني؟ أما نزال، بعد أن درجنا حتى الأمس القريب على ترديد (نحن مع السعودية) بسبب ودون سبب، نتحفظ على أن نكاشف شعبنا والشعوب العربية، بالحقيقة كاملة، ومن هم هؤلاء العرب، وبالاسم، ولماذا (مش معنا)؟

إن تحريك تضامن الشعوب العربية مع القضية الفلسطينية يتطلب أمرين أساسيين: تحرُّكنا في وجه الاحتلال على مختلف الجبهات أولاً؛ وثانياً، مصارحة شعبنا والشعوب العربية بالحقائق كاملة حول موقف هذه الأنظمة وممارساتها الحقيقية.

أما المراوحة في المكان والشلل، في ظروف التطورات العاصفة في المنطقة، والتي جاء إسقاط الطائرة الإسرائيلية مؤشراً إضافياً إلى تسارعها، فتعني التقهقر إلى الوراء، فهل تدرك القيادة الفلسطينية ذلك، وتكفّ عن التهرب من مواجهة الحقائق الصارخة؟!

العدد 1140 - 22/01/2025