عمل المرأة… بين الاختيار والإجبار

 لقد طرق الفقر بابنا بعد أن هُجِّرنا من دارنا، فالحرب هشّمت أساساته ودمرت جدرانه وخطفت معها قدم أبي وتركته طريح الفراش يعاني آلام البتر ومرارة التشرد، ورمتنا في معركة خاسرة نواجه بها الوجه الأسود للحياة بلا استعداد، فكان الحل إما العمل أو التسول. فأنا الابنة الأكبر بين شقيقاتي الأربع، ابنة الأب المصاب والأم المريضة، أحرقت كتبي وركنت احلامي في زاوية قلبي وهرعت أطلب العمل في كل مؤسسة وفي كل منزل وفي كل محل ومقهى، فلم تهمّني نظرة الناس إليّ وأنا أمتهن عملاً اعتاد الرجال على الاستحواذ عليه، ولكن ما كان يحطم وجداني أني حرمت الحق في اختيار العمل أو البقاء من دونه، بل ذهبت إليه قسراً عسى أن تقف تلك الآلاف القليلة التي أنالها في وجه وحش النوم جوعاً وبرداً.

الحرب أجبرت كثيراً من الفتيات والنساء على العمل بأعمال لا تحقق طموحاتهنّ وآمالهنّ، وكل ما تؤمّنه هو مصروف يسدّ رمق أُسرهنّ، بعد أن فقدت معيلها، فنجد فتيات أوقفن دراستهن وامهات تركن أبناءهن وسعين لتحصيل لقمة عيشهن، فدخلن في معترك الحياة وامتهنّ أعمالاً لم يسبق للمرأة السورية أن زاولتها قبل هذه الحرب، وذلك لأسباب مختلفة منها الاستخفاف بقدرة المرأة على إتقانها، ومنها المحيط الاجتماعي الذي عاشت فيه، ولكن مع الحرب تحطمت هذه الأسباب، فهجرة الشباب أتاحت أمام الشابات فرص عمل لم تكن موجودة، ونقص اليد العاملة الذكورية أوجدت مكاناً للأيدي الأنثوية، فأثبتت أنها قادرة على تحمّل أكثر الأعمال إجهاداً.

 فالسيدة المكافحة (أم نزار) خرجت عن المألوف، وتحملت أن تتلوث يديها بزيت محرك السيارات عند تصليحها وأوساخ العجلات عند تغييرها، فلم يعد يقف بوجهها محرك كوري أو ياباني أو حتى ألماني، فقد باتت ملمّة بتفاصيل هذه المهنة وأتقنتها بحيث افتتحت ورشتها الخاصة وأصبح لديها زبائنها الذين يثقون بجودة عملها.

أما (لين) فتركت نصيبها من اسمها وأخذت نقيضه، فتحلّت بالقسوة وحملت تلك السكين الضخمة ووجهتها لتنزع جلد الخروف المرمي أمامها وتقطيع أجزائه كأيّ جزار ماهر، وترضي أذواق زبائنها وتؤمّن طلباتهم بعد أن عملت جاهدة على نسيان خوفها من الدماء وانزعاجها من رائحته، وصبّت اهتمامها على تغذية أجساد أطفالها الضعيفة وتسديد إيجار الغرفة التي تسكنها.

أما من حالفها الحظ ووجدت فرصة عمل تناسب شهادتها ومجال دراستها فكانت مصدر إلهام للكثيرين بقدراتها المتميزة وأفكارها المبدعة، ولكنها منحت أجراً أقل من زملائها الرجال في العمل، فهي بنظرهم مجرد شابة ليس لديها مسؤوليات، لهذا يمكن أن تقبل بأجر عاجز عن أن يوفيها حقها مقابل عملها.

ومع وجود هذه الحالات، وهي ليست قليلة، لا ننكر وجود بعض الشركات التي تقدر قدراتهن ومجهودهن، وتقدم لهنّ الأجر الذي يستحققنه، ولكن مع الأسف مثل تلك الشركات تبقى قلة قليلة في مجتمعاتنا التي اعتادت انتهاك حقوق النساء.

في حين خاضت بعض الشابات معركة الحصول على فرصة عمل محترمة بعد أن خرجت من قوقعة محيطها الاجتماعي، وانتقلت إلى حي آخر لا يوجد فيه أقارب أو جيران، فنفضت عن كاهلها همّ نظرتهم إليها، إن عملت، فانطلقت تغسل الصحون في المطاعم وتنظف طاولات المقاهي وتكنس أرضيات المنازل وتلمع نوافذ البيوت وتطرق الأبواب بصفتها مندوبة مبيعات تحمل في جعبتها أصنافاً متعددة من مستلزمات التجميل، أو تبيع المنتجات المختلفة في المحال أو عبر صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، وكلها مقابل أجور زهيدة.

هذه الأعمال لم يعتد المجتمع السوري على رؤية الفتيات يعملن فيها قبل الحرب، مما سبب حالة من الاستنكار في بادئ الأمر، ولكن مع الوقت فُسرت هذه الظاهرة بالحاجة والعوز إلى المال، لأن هذه الحرب جعلت من لقمة العيش هدفاً يصعب الوصول إليه، وتأمين المستلزمات اليومية الضرورية حالة مرهقة لمن يقوم بمهمة المعيل، لا سيما الشابات اللواتي شرعن بالعمل في هذه الأعمال المجهدة.

الأديان السماوية كرمت المرأة ولكن مجتمعاتنا المتخلفة أحبطت دورها وسلبتها حقوقها وتركتها تصارع وتحارب للحصول على مكانتها المنتهكة، فالبيئة الاجتماعية التي كانت ترفض عمل المرأة هي نفسها التي أصبحت اليوم تعيش على أكتاف هؤلاء الشابات، وهي نفسها التي مازالت تنتقص دورها وترغمها على العمل وتستغل حاجتها إلى المال مقابل استنزاف طاقتها، فإذا كنا نطالب بالمساواة بين الجنسين، لا لأن الاديان لم تفِها حقّها، بل لأن مجتمعاتنا اغتصبت هذا الحق وطالبتها فقط بواجباتها! وإذا كنا نكتب فهذا لأننا ندعو الجهات الرسمية والجمعيات الأهلية لدعم النساء العاملات وحمايتهن من الاستغلال، وضمان حصولهن على عمل محترم بأجر عادل ومنصف، والعمل على توعية فئات المجتمع لتغيير نظرتها إليهنّ.

العدد 1136 - 18/12/2024