لا صحافة حرّة ولا محايدة
منذ أن وجد الإنسان نفسه في مواجهة الطبيعة حاول التعبير عمّا في داخله بالإشارات والرموز على الجدران. وحين وعى ذاته أكثر بدأ بتدوين آرائه وأفكاره وأحداثه المهمة على أوراق الشجر منذ أكثر من أربعة آلاف عام (البردي في مصر الفرعونية) وكذلك استخدم الحجر وسيلة ربما كانت وحيدة حينها لإثبات حضوره في الطبيعة والحياة.
وبتطور الإنسان ذاته، تطورت أساليب ووسائل تواصله مع الآخرين من خلال ما يُعرف بالصحافة التي كانت بدايةً على شكل أوامر حكومية من المركز إلى الأطراف، ولعلّ خير مثال على هذا هو حجر الرشيد (مصر) الذي كُتب عليه بخطوط ثلاثة: اليوناني والديموطيقي والهيروغليفي في عام 196 قبل الميلاد، وكان الهدف من كتابته هو إذاعة قرار أصدره المجلس الديني في ممفيس، وبذلك يمكن القول إن هذا الحجر هو أول جريدة رسمية.
وهكذا تتالت أحداث نشوء الصحافة في أرجاء العالم حتى وصلت إلى ما هي عليه اليوم في الألفية الثالثة من تطور مذهل بالأدوات والأساليب والوسائل، وبالتالي التنوّع المُدهش الذي يفيض كبحار لا تعرف الاستقرار.
إذاً كانت الصحافة منذ بداياتها الأولى تعبيراً عن إرادة السلطات العليا، ومع أنها في عصور لاحقة حاولت أن تكون في بعضها تعبيراً عن رأي مختلف شرائح المجتمع، أو صوت النخبة فيه، فإنها ولا شكّ قد نجحت في بعض الأحيان والأماكن والمجتمعات، لكنها عموماً بقيت صحافة مقيّدة إلى حدٍّ ما، أو أن بعضها اختار أن يكون صوت السلطة مع أن الملكية تعود إليه.
بالتأكيد لا يمكننا إغفال الدور الهام والأساسي للصحافة في تطور الفرد والمجتمع على مرّ التاريخ وفي مختلف المجتمعات البشرية ومنها مجتمعاتنا العربية. كما لا يمكن إغفال ما لعموم الصحافة من تأثير على الرأي العام في عموم المجتمعات، وهذا ما ظهر بشكل كبير في مطلع القرن التاسع عشر حين نهضت الصحافة المطالبة بالانعتاق من نير السلطنة العثمانية، أو تلك الداعية إلى تعليم الفتيات ونهضة النساء مثلاً… واليوم ونحن في عصر تكنولوجيا المعلومات الذي أحدثته ثورة الاتصالات تلمّسنا جيداً وعن كثب دور الصحافة بمختلف أنواعها في تحريك الرأي العام واستقطابه تجاه مختلف القضايا المُثارة على سطح كوكبنا، ولعلّ في الأحداث التي شهدتها منطقتنا العربية خير مثال على هذا الاستقطاب أو التأليب أو الإقصاء.
وانطلاقاً من هذا، يمكن القول إن الصحافة بشكل عام ليست حيادية، ولم تكن حيادية يوماً، لأنها وببساطة وكما أشرنا أعلاه كانت من بداياتها الأولى، وما زالت صوت السلطة وقراراتها التي لم تكن في صالح فئات أو شرائح من المجتمع، ثمّ صارت هذه الصحافة أسيرة آراء ورغبات مالكيها أو مموليها من أفراد وأحزاب وتيارات متنوعة (سياسية، دينية، مدنية… الخ) وبالتالي فهي المعبّر عن رأي فئة ما بعينها وليست تعبّر عن رأي الأغلبية أو عن رأي محايد تجاه العديد من المسائل والقضايا التي تتناولها. في الوقت الذي يجب على الصحافة برأيي أن تكون محايدة خاصةً في رؤيتها للمسائل والقضايا العامة والمصيرية التي تخص الشعوب لاسيما المقهورة منها (فلسطين مثلاً)، ولهذا ارتأت الأمم المتحدة أن يكون هناك يوم للصحافة الحرّة (3 أيار من كل عام) للتذكير بضرورة حرية الصحافة من كل القيود التي تعرقل الوصول إلى الحق والحقيقة.