عودة ترامب.. كابوس ثقيل على أوربا
د. نهلة الخطيب:
قبل فوز ترمب تزايدت المخاوف الأوربية حول مستقبل القارة، فهناك اعتقاد أوربي بأن عودته قد تشجع بوتين على انتزاع أراضٍ أكثر من أوكرانيا، وإشعال حرب تجارية واقتصادية، وتعزيز الانقسام في أوربا، ولاسيما بعد مرور السنة الثانية على الحرب الروسية الأوكرانية دون توفر إمكانية إيجاد حلول لإيقافها، بعد أن وضعت أوربا على المحكّ في أمنها الطاقي وعجزها في حسم التهديدات الوجودية، وسبّبت تباينات وخلافات عميقة بين دولها؛ فحالياً هناك انقسامات كبيرة فيها، وبعض الدول الأوربية بدت تئنّ تحت ثقل المساعدات إلى أوكرانيا سواء العسكرية أو غيرها، ووجدت أوربا نفسها محصورة في زاوية، لذلك تحاول أن تبحث في خياراتها الاستراتيجية وأن لا تعتمد على أمريكا فقط، وأن تتغلب على التحديات الاقتصادية من أجل معالجة المشكلات السياسية، حينئذٍ خرج ماكرون بتصريحات أثارت الجدل حول الاستقلالية الاستراتيجية الأوربية عن الولايات المتحدة الأمريكية، وعدم التبعية المطلقة لها، مع إصرار ماكرون على التقارب مع الصين على صعيد التفكير الاستراتيجي، ودعوته وألمانيا لبناء جيش أوربي موحد، وتعزيز الإنفاق الدفاعي للتخلي عن الحماية الأمريكية، يضاف إلى ذلك مجاراة الاتحاد الأوربي للتحولات المتسارعة الجارية في قطبية النظام الدولي، وبروز قوى صاعدة، لترسيخ مكانة أوربا وحتى لا تقع فريسة لعبة المحاور بين القوى العظمى، وسط تزايد تهديدات التحالف العسكري بين روسيا والصين وكوريا الشمالية لمواجهة سياسة الاحتواء التي تنتهجها أمريكا.
لا شكّ أن تغييراً كبيراً طرأ على أوربا في عهد بايدن، منها سباق تسلح مع ما يتطلّبه من إنفاق عسكري كبير، وتوسّع حلف الناتو بانضمام السويد وفنلندا على الحدود الروسية الشمالية، وانتشار عسكري واسع للقوات الأمريكية في أوربا وانخراطها في دعم غير محدود لأوكرانيا بحرب وكالة مع روسيا، وتهديدات روسية بحرب مباشرة مع أوربا، إذا استمر الدعم الأوربي لأوكرانيا، فضلاً عن انخراطها في العقوبات الاقتصادية الصارمة ضد روسيا.
ولكن بايدن انسحب وخسر حزبه في الانتخابات، وعاد ترامب إلى البيت الأبيض مجدّداً، وسارع كثيرون من زعماء العالم، والأوربيون الخائفون والمنزعجون، كانوا من الأوائل الذين سارعوا لتهنئته بحرارة بالولاية الثانية استعداداً لسياساته المقبلة والتي ستتمحور حول إنهاء الحروب، وتغيير العالم، والصفقات والردع وغالباً ستبقى كما هي، لكنهم يشعرون بالقلق ويحاولون تنسيق مواقفهم الآن، فترامب وأجندته من الغرب، وتهديد بوتين من الشرق يعمّق المخاوف بشأن المرحلة المقبلة مع غياب اصطفاف أوربي واضح، وعدم وجود قيادة قادرة على الدفاع عن المصالح الأوربية. فبعد فوز ترامب بساعات تصدعت الحكومة الألمانية، ولم يستطع أولاف شولتس الحفاظ على تماسك ائتلافه الحاكم، بعد أن خسرت ألمانيا مكانتها الجيوسياسية عما كانت عليه في عهد المستشارة أنجيلا ميركل، وماكرون البطة العرجاء في فرنسا تحت وطأة اليمين المتطرف.
تداركاً لنفاد الوقت، ولأول مرة منذ سنتين أجرى شولتس اتصالاً هاتفياً مع بوتين لبحث النزاع في أوكرانيا، وطالبه بسحب القوات الروسية منها، خوفاً من خطة السلام الخاصة بأوكرانيا التي تحدث عنها ترامب كثيراً، وازداد القلق الأوربي بسبب اهتمام ترامب العلني بالتفاوض مع بوتين بشأن أوكرانيا، فقد تحدث عن تقليص الاشتباكات العسكرية الأمريكية في الخارج، وإنهاء الدعم المالي الأمريكي لأوكرانيا، وسط توقعات بأنه سيدفع إلى نهاية الحرب فيها، والصفقة التي يقترحها ترامب هي أن تتنازل أوكرانيا عن بعض أراضيها مقابل تعهد روسي باحترام سيادة أوكرانيا مستقبلاً، وصرح أكثر من مرة أنه يريد من القوى الأوربية والناتو وقف الدعم لأوكرانيا، وأوكرانيا تعتمد على الدعم الغربي والأمريكي بشكل كامل، مما يجعلهم يخسرون هذه الحرب التي استثمروا فيها كثيراً، وفي تصريح سابق لزيلنسكي: (إن أي تنازلات لروسيا هي خسارة لأوربا)، فالأوربيون يشككون في التوصل إلى اتفاق أو خطة استراتيجية تراعي المصالح الأوربية وتحمي سيادة أوكرانيا وتعزز السلام في أوربا.
ويخشى الأوربيون على أمنهم القومي بعودة ترامب، وخاصة الدعم الأمريكي لحلف الناتو استناداً لتصريحات ترامب بتقليص التزامات أمريكا تجاه الناتو والدفاع الأوربي، وزيادة ميزانياتهم الدفاعية إلى 2% من قيمة الناتج المحلي، ومطالبة أوربا بدفع الأموال مقابل الحماية الأمريكية، والتلميح بالانسحاب من الحلف، الذي قد يستخدمه ترامب كأداة ضغط لتحقيق مصالح أمريكية في قضايا غير دفاعية، وبالتالي أوربا غير قادرة إذا انسحبت أمريكا على الاستمرار، فضلاً عن أن انسحاب ترامب من اتفاقية باريس للمناخ سيجعل حكومة شولتس تواجه صعوبات في فرض ضوابط دولية للحد من انبعاثات الكربون، إذ يجب على ألمانيا أن تصبح محايدة مناخياً، وأن تحول إمداداتها بالطاقة من الفحم والنفط والطاقة النووية إلى الطاقات المتجددة، واقتصادها كله إلى الحياد المناخي، وهو أهم مشاريع الحكومة الألمانية.
في تصريح سابق قالت كريستين لاغارد (رئيسة البنك المركزي الأوربي): (إنه يجب على أوربا، أن تستعد للتهديدات المحتملة لاقتصادها، إذا عاد ترامب إلى البيت الأبيض).
عودة ترامب تعني عودة للتعريفات الجمركية على جميع الواردات وخصوصاً قطاع السيارات والمعادن قد تصل الى 100%، وغيرها من التدابير الاقتصادية القسرية ضد حلفاء الولايات المتحدة وبضمنهم الاتحاد الأوربي لخفض العجز التجاري معهم، قد توجه ضربة قوية لاقتصادات الدول الأوربية وخاصة ألمانيا وفرنسا، التي تعتمد بشكل كبير على التصدير وتعد ألمانيا من أهم الشركاء التجاريين للولايات المتحدة الأمريكية، وخاصة صناعة السيارات والأدوية.
وجود ترامب الشعبوي، سيدعم التعاطي مع الأحزاب الشعبوية، التي تتصاعد في أوربا، كما حدث في ولايته الأولى، وظهور أصوات تعترض على الدعم لأوكرانيا، مما سيؤثر على الاقتصاد بشكل سلبي، ويهدد مستقبل الاتحاد الأوربي في ظل تشكيك تلك الأحزاب فيه، وسيطرة أحزاب اليمين المتطرف على ما يقارب 25% من البرلمان الأوربي. فيكتور أوربان (رئيس الوزراء المجري) وجورجيا ميلوني (رئيسة الوزراء الإيطالية) وأندريه دودا (الرئيس البولندي) هم حلفاء ترامب الشعبويون وكانوا دائماً تحت مظلته.
الاتحاد الأوربي يمر بمنعطف خطير حول إمكانيته بالاستمرار ومواجهة التحديات التي تتفاقم يوماً بعد يوم، بالتوازي مع ازدياد التضخم الاقتصادي والبطالة والفقر والهجرة، وتداعيات الارتفاع المفاجئ في أسعار الطاقة المرتبط بالحرب الأوكرانية وتزعزع أمنهم الطاقي، وهو ما يشكل ضغطاً على قادة الدول الأوربية ويُلزمهم بمراجعة التشاركية الثقيلة بسبب اختلاف الظروف والإمكانيات المادية وعجزهم عن تحقيق التكامل الأوربي كما كانوا يحلمون، والوقت يمضي على حساب الجميع، وبوتين له الأفضلية في ظل الإدارة الأمريكية الجديدة، ومن سيدفع الثمن هو الأوربيون، فلا غرابة (أن تكون عودة ترامب كابوساً ثقيلاً لأوربا” حسب وصف صحيفة البوليتيكو.
ولكن لا يبدو أن بإمكان ترامب الذهاب بعيداً في تطبيق نهجه تجاه أوربا وأوكرانيا وتحقيق الحلم الروسي بإعادة أمجاد القيصر، لأن سقوط أوكرانيا يعني سقوط دول أوربية أخرى، وهذا أمر لا ترغب به الدولة العميقة في أمريكا، بغضّ النظر عن موقف ترامب المعادي للحلف وللاتحاد، وبالتالي لا يستطيع القيام بتغيير استراتيجي في الموقف الأمريكي من أوكرانيا إلا ضمن حدود معينة.