بين من يرون في الشهادة أسمى أمانيهم ومن يهربون من الموت بتحصيناتهم

د. عبادة دعدوش:

في زوايا غزة، حيث حكايات الشجاعة تُروى مع أنين المعاناة، يقف يحيى السنوار كرمز للصمود والاستبسال، متمنياً الشهادة، تلك الهدية التي اعتبرها أسمى ما يمكن أن يُقدّمه للاحتلال الإسرائيلي. بينما على الجانب الآخر، ينبثق مجرم الحرب بنيامين نتنياهو، ليُجسّد حالة من الجبن تُخفيه وراء التحصينات العسكرية.

تُسلّط هذه المقارنة الضوء على عقيدة القتال المُتجدّدة في غزة، بين من يحملون لواء الشرف والدفاع عن الوطن، ومن يَتَخَفَّوْنَ خلف الأسوار باحثين عن الأمان المزعوم.

يحيى السنوار، الذي عُرف بشجاعته وإيمانه العميق بقضيته، يُمثّل نموذجاً يُلهم الكثيرين. (الشهادة هي أعظم هدية)، هكذا أطلق كلماته المُفعمة بالإيمان، كزهرٍ ينبض في قلب العاصفة. يرفض أن يكون مجرّد رقعة في لعبة الأموال والسياسات، بل فضّل أن يُدافع عن وطنه بأقصى طاقاته، راسماً حدود الفخر برماده. قاد مقاتليه على الأرض، فعاش بينهم وتشارك معهم الأوجاع والآمال. سنة كاملة من القتال تكلّل بالإصرار والتحدي، حيث باتت أقدامه تمشي على الأرض المُدنّسة بالحزن. مُصمّماً على مواجهة الطغاة، كاشفاً بهذا زيف الكيان المحتل من جاسوسيه واستخبارات وقاهر لتكنلوجيا التطور في حرب غير متكافئة البتّةَ.

تتراصُّ الجراح على جسده، لكن روحه قادرة على أن تعكس ألوان الشجاعة التي لا تنطفئ. كان يُقاتل مع أبناء شعبه وكأنهم أرواح واحدة تتجسّد في عدّة أجساد، فكلما سقط شهيد، ارتفعت الراية عالياً وكأنها تتحدّى المنيّة. في ختام كل معركة، يخرج مُبتسماً، مُعتقداً أن كل لحظة يعيشها في الفقدان تقترب به أكثر نحو تحقيق أمنياته، وكانت النهاية شهيداً ورمزاً للشهادة والبسالة، وقدوة لكل مدافع عن العرض .

على الجانب الآخر، يتبدّى المشهد ويتّضح كما لو كنتَ تشاهد مسرحية مثيرة، حيث يظهر نتنياهو كأحد أبطال الكوميديا السوداء، الذي يختبئ وراء جدران التحصينات العسكرية، مُعتمداً على أسلحته الفتّاكة، في حين تُجبره تلك الصواريخ المُتساقطة على تعليق لافتة (ممنوع الدخول). يُمثّل نتنياهو وجه النظام الذي يتعالى بقدراته العسكرية، لكنه يظهر أمام أبناء غزة كمن يُخفي رأسه في الرمال عند أولى ضغوطات المعركة. إن الاجتياح الأخلاقي الذي يُمثّله يحمل طابعاً هزيلاً، حيث يتلطّخ بالأضرار، مُتعذراً وراء سياسات البراغماتية الجشعة.

ومع كل صوت عالٍ يُطلق من قبضة المقاومة، يرتعشُ عرش الجبناء. يظهر نتنياهو كمن ظلَّ مُحاصراً بأقوى التحصينات، يخشى أن يخطو خطوة نحو المواجهة الحقيقية، مُراهناً على الأمان المُصطنع، مُخالفاً أُسس الشجاعة التي تتطلبها القيادة الحقيقية. ظّانّاً أن الجدران يمكن أن تُحصّن نفسه، في حين أن الشجاعة تُبنى في الساحات العامة، بين الرجال الذين يبذلون أرواحهم لأجل القيم والأوطان.

هي دروس من الصفحات الدامية ليظهر جليّاً عمق الفرق في القيم والمبادئ. يُرمى الأول على أرض المعركة برضا القلوب، مُصارعاً من أجل الحرية والشرف، بينما يجد الثاني نفسه في قيدِ الخوف، مُتربعاً على قمة الجبال التي لا تعدو أن تُخفيه بين جدرانها.

إنها معركة لا تُقاس بالأسلحة بل بالقيم. فبينما يمضي يحيى السنوار في ميادين الشرف والبسالة وحماية العرض والارض، يُكرّس جهداً أفضى لفكرٍ ثائرٍ يُجسّد إنسانيته، يبقى نتنياهو محاصراً بخوفه من صواريخ تنطق بشجاعة من يقف على الحق. يُبرز ذلك الفارق الجوهري، أن الحرب ليست فقط على الأرض، بل هي محاكمة للقيم تُكتب بالنفوس قبل الأسلحة.

العدد 1128 - 16/10/2024