المسنّون السوريون عُزّل في مواجهة أقدارهم
إيمان أحمد ونوس:
عام 1978 عرّفت منظمة الصحة العالمية الشيخوخة بأنها (عملية بيولوجية تخضع لها جميع الكائنات الحية وتبدأ في سنٍّ مبكرة من العمر وتستمر مدى الحياة وتترافق بتغييرات حيوية في أنسجة وأعضاء الجسم).
تُشير الأرقام إلى أن ربع سكان العالم عام 2050 سيكونون من المُسِنين. لذا، خصّصت الأمم المتحدة الأول من تشرين الأول من كل عام يوماً عالمياً لهم تذكيراً وتكريماً لشريحة من المجتمع وهبت عمرها لخدمة الآخرين بشكل أو بآخر سواء على المستوى الشخصي أو العام، وأيضاً لكون الشخص المُسنّ أصبح غير قادر على ممارسة حياته العملية إلاّ بمساعدة الآخرين، وهذا ما يستلزم تقديم العون له على مختلف المستويات.
يُشكّل الضمان الاجتماعي أحد أركان حماية المُسِنين عبر معاشات تقاعدية يُفترض أن تكون كافية لتأمين احتياجاتهم الأساسية من دواء وغذاء خاص تتطلّبه هذه المرحلة العمرية. وفي إطار توسيع آلية الدعم الذي تقدمه الدولة للمُسِنين جرى في عام 2012 إعداد الخطة الوطنية لرعاية المُسنين، وكانت أبرز نقاطها:
توفير الخدمات الصحية والعلاجية والوقائية مجاناً للمُسنّين والعمل على تأسيس فريق وطني مُتخصّص في طب الشيخوخة وتعزيز التعاون والتنسيق بين وزارة الصحة والجهات ذات العلاقة، إضافة إلى البنود الهامة الأخرى كإنشاء نوادي خاصة بهم تواكب احتياجاتهم الروحية والنفسية بحيث يقضون في فضاءاتها أوقاتاً ممتعة تبعدهم عن الملل والشعور بالإهمال ودنو الأجل. فالتوقف عن العمل، أو الإحالة إلى التقاعد يُشعر المُسِن بتخلخل مكانته وقيمته تجاه نفسه والآخرين، ممّا يُقلّل بالنتيجة من قيمة العلاقة بينه وبينهم، وهذا ما يُدخل في نفسه الحزن والعزلة. كما يمكن للقطاع الأهلي أن يشارك الحكومي في إيجاد دور للعجزة والمُسنين تضم كوادر مؤهلة للتعامل مع هذه الشريحة تعاملاً إنسانياً ينمُّ عن تعاطف ومودة واحترام، دور مُجهّزة على مستوى جيد من حيث الخدمات المُقدّمة للمُسِنين الذين لا أهل أو أولاد لهم يقومون بواجباتهم، أو أولئك الذين تخلّى عنهم أقاربهم وهم في أمسّ الحاجة إلى عناية خاصة.
كان هذا عام 2012 أما اليوم ونحن نقترب من نهاية العام 2024 فنجد أن أوضاع المُسنين في البلاد أصبحت كارثية، بسبب انعدام كل ما تضمنته الخطة الوطنية لرعايتهم من قبل الحكومة، أو بسبب الحرب وتبعاتها الرهيبة التي التهمت كل مقومات الإنسانية في مجتمعنا السوري للأسف، فبات المُسنّون في الشوارع مُشرّدين يفترشون الأرصفة ليلاً، ويتسولون نهاراً ما يسدّ رمقهم. ولم يعد غريباً أو مُدهشاً منظر رجل أو امرأة بعمر الشيخوخة يبحثون في الحاويات عمّا يبقيهم على قيّد حياة لا تليق حتى بحيوان. هذا عدا عن احتياجاتهم الصحية والطبية في زمن الجشع الذي طال أرقى مهنة إنسانية/الطب، حتى نهشت غالبيتهم الأمراض التي لم يستطيعوا إلى علاجها وأدويتها وصولاً. أمّا أولئك المتقاعدون فالحديث عن معاناتهم يطول تزامناً مع ضعف الراتب (المعاش التقاعدي) وهذه تسمية فقدت معناها لأن هذا الراتب لا يكفي الشخص المُسن في الحالة العادية لأكثر من أيام، خاصّة بعد أن فقد الضمان الصحي والاجتماعي بخروجه من العمل في الوقت الذي هو بأمسّ الحاجة لهذا الضمان، فكيف سيستقيم هذا المعاش مع واقع الحال والحياة اليوم؟ لا أعتقد أن أعلى (معاش تقاعدي) يمكن أن يلبي حاجة المتقاعد لأكثر من علبة أو علبتي دواء للأمراض العادية، فكيف مع الأمراض الخطرة؟
بالتأكيد جميع المسؤولين يعرفون ويدركون هذا الكلام، ولا شكّ أنهم يشاهدون ولو مرة واحدة في الاسبوع مُسنّاً متسولاً أو مُشرّداً أو نابش قمامة، لكنهم جميعاً عن هذا الواقع غافلون ومتغافلون.. وعن خططهم الوطنية ساهون أو متناسون، وفي الحقيقة متراجعون، لأن مكاسبهم من تلك الغفلة والسهوة والنسيان أكبر من يقظة واجبهم وتنفيذ خططهم التي أشاحوا عنها مع سبق الإصرار والتعمّد..
لا ريب في أن الاهتمام الأسري يبقى الأهم بالنسبة للمُسِن نفسه لما يُمثله من تقدير قيمته وأهميته في حياة الأسرة، وإشعاره دائماً بالحاجة إليه من ناحية خبرته في الحياة العامة والخاصة، لأن اكتساب المعارف والمعلومات والخبرات، هو أَمر يحافظ عليه الشخص المُسِن طويلاً.
غير أن السمة شبه العامة قبل الحرب كانت توحي بعكس ذلك، فكيف بنا اليوم بعد سنوات حرب تركت تبعات وندوباً طالت الجميع، لاسيما أولئك المُسِنون الذين كانوا في الماضي وباتوا اليوم عبئاً ثقيلاً من كل النواحي لعدّة اعتبارات منها:
– ضيق ذات اليد لدى الأبناء بسبب الوضع الاقتصادي العام، وضعف قيمة الراتب التقاعدي للمسّن( إن وجد) فهو لا يفي بسدّ احتياجاته الأساسية من دواء وغذاء وما شابه.
– عمل الزوجين خارج البيت في الوقت الحالي قلّص فرصة مساعدة الأبوين أو استقبالهما ورعايتهما في مرحلة الشيخوخة.
– ضيق الأبنية الحديثة التي تكاد لا تكفي الأسرة، فكيف بوافد جديد؟
– رفض أحد الزوجين خدمة أهل الزوج/ الزوجة للأسباب السابقة حيناً، ولتلاشي النخوة الإنسانية التي سادت في الماضي من احترام للمُسن.
– سفر الأبناء للخارج بحكم العمل أو الدراسة (سابقاً) واليوم التهجير بسبب الحرب.. ما فرض بقاء الأبوين وحيدين دون معيل يهتم بشؤونهما.
كل هذه الأمور مجتمعة تفرض على المُسِن في الحالة الطبيعية اللجوء إلى دور المُسِنين لإيجاد البديل من حيث الرعاية الشاملة، وأيضاً بدافع التفاعل الاجتماعي الموجود بين النزلاء بكافة اتجاهاته الروحية والنفسية. وقد احتضنت دور المُسنين على مدى وجودها قامات كبيرة وهامات فنية وعلمية رفيعة. لكن ما يؤخذ على أكثرها- بما فيها الحكومية- أنها تفرض على النزلاء مبالغ كبيرة لا يمكن للغالبية امتلاكها أو تأمينها، وهذا ما يُبقي ملف المُسِنين في مجتمعاتنا شائكاً وعالقاً ما بين الواقع والحاجة والإمكانات.
فهل أخذ هذا المُسِن في مجتمعنا حقه الطبيعي بعد رحلة عطاء وعمل طويلة أخذت منه عمراً بأكمله؟ وهل اليوم العالمي لتكريمه يُنهي ولو جزءاً صغيراً من معاناته اليوم!؟