الحياة مدرسة للأبناء

وعد حسون نصر:

ليست كلّ سلوكياتنا وتصرفاتنا في الحياة هي نتيجة تربية الأهل، ولا حتى ما اكتسبناه منهم من ردّات فعل أو طريقة تعامل، أو كل ما لقّننا إيّاه الآباء.

هناك مواقف تتطلّب منّا ردّة فعلنا أو بعض ملامح شخصيتنا نحن. فكلما كبرنا عاماً سجلنا في خانة معارفنا الاجتماعية مواقف أظهرت كيفية تعاملنا معها. دخولنا الأول للمدرسة كان أول بُعد لساعات عن الأسرة، وتحديداً عن الأم، إذ كنّا بمفردنا نواجه مجتمعاً جديداً ووجوهاً جديدة، بعضنا بكى وبعضنا الآخر كان اجتماعياً أكثر من غيره، فقد اعتبرها فسحة ومكاناً للعب. لكن تذكّر أن المدرسة بداية حياة تعليمية واجتماعية جديدة، فراقٌ لساعاتٍ عن الاهل، التزامٌ وامتناع عن الكلام والطعام، والتركيز في أبجدية الأحرف الأولى، هنا نكون قد سجلنا أول تجربة لنا في خانتنا وكيف تعاملنا معها، كبرنا ونحن نتحدّث عنها لأنها أول المعارف الاجتماعية، تلتها تجربة النجاح والامتيازات والتقديرات والتنافس على المراكز الأولى، وبعدها تجربة المرحلة الإعدادية أول امتحان ضمن قاعة وبوجود مراقبين وانضباط، ردّة الفعل تجاه رهاب الامتحان، اختلاف المكان والأشخاص واختلاف طريقة الاختبار ونمط الأسئلة! ثمَّ النجاح أو الرسوب وسلوكنا ونحن نواجه الحالتين، كيفية تعاملنا مع ردّة فعل الأهل، الأصدقاء، الجيران والمعلمين، مع طموحاتنا وأمنياتنا، مع سلّم العلامات وما يخوّلنا للقبول المهني أو العام.

كل هذه تجارب جديدة في خانة حياتنا، ننتقل بعدها إلى مرحلة جديدة من تقرير المصير، الثانوية العامة ومعدّل القبول الجامعي رغم أننا تجاوزنا امتحان الإعدادية المشابه من حيث القاعة والمراقبين والانضباط، لكن هنا الوضع مختلف، هنا تجربة جديدة مع تقرير المصير، مع فرصة نجاح جديدة تنتقل بنا إلى مركز علمي جديد، فرع جامعي، تأهّل دراسي واجتماعي جديد يُحدّد لنا نمط حياتنا وطريقة عملنا في المستقبل، ولقب ما قبل اسمنا (المحامي، أو الإعلامي، أو المهندس، أو الطبيب… الخ)، لذلك علينا أن نخوض معركة هذه التجربة الجديدة بحذر مستفيدين تماماً من التجارب السابقة.

ولابدَّ بعد ذلك أن تبدأ مرحلة اجتماعية جديدة، كدخولنا الأول إلى محفل عزاء وكيف كان تصرّفنا مع الشخص المفجوع، ماهي أول عبارة نطقناها بسلاسة أو تلعثمنا، تلبكنا، ارتجاف أطرافنا أو بقائنا ثابتين يغمر العرق جبيننا مع تأجّج وجنتينا، أم كان الأمر عادياً ضمن تجربة اجتماعية جديدة؟ هل بمناسبة الفرح يكون تصرفنا كذلك؟ كيف ألقينا عبارات المباركة، كيف رقصنا، بأيّة طريقة قدّمنا واجبنا وعبّرنا عن فرحتنا؟!

هذه السلوكيات الجديدة مع الوقت ستصبح شيئاً طبيعياً ومعتاداً سنضيفه إلى خانة السلوك الاجتماعي، وكيفية التعامل مع المواقف الجديدة. كذلك سنضيف سفرنا الأول، الغربة الباردة الطويلة عن حضن الأم، عن الوقوف بجانب الأب هذا السند الداعم لنا في كل موقف يواجهنا، فهنا نحن بمفردنا ضمن مجتمع جديد نواجه المرض بمفردنا، البكاء والتعب والمشاكل، حتى الحزن والفرح! هنا لا يوجد معنا سوى ذواتنا، لذلك لابدَّ أن نستحضر أولى التجارب لنستمدَّ منها الحلول وندعمها بنضجنا وحكمتنا، فلم نعد طلاب الصف الأول الابتدائي، ولم يعد المجتمع مجرّد مدرسة الحي، هنا نحن بمفردنا نتعلّم من خبراتنا، من سقوطنا وفشلنا، من نجاحنا وتفوقنا! هنا أصبح لدينا خانة اجتماعية شبه متكاملة نستحضر المهم منها في الوقت المناسب.. لذلك قال الأجداد في مثلهم الشعبي: (ابنك لا تعلمه بكرا الدهر بعلمه) فالحياة هي أكبر مدرسة، فهي من خلال تجاربنا تُعزّز معارفنا وتُدعّم خبراتنا، وتجعلنا نستعيد ذاكرتنا لنجابه كل ما يصادفنا في الحياة ونحن ممتلئون ثقة وأماناً.

العدد 1120 - 21/8/2024