كيف أصبحتُ شيوعياً

عبد الرزاق دحنون:

عنوان كتاب الباحث والمفكر والمُترجم والأديب السوري المُبدع و”الشيوعي المزمن” عبدالمُعين الملّوحي، صادر عن دار المدى للثقافة والفنون. وحين سعيت إليه في حفل توقيع هذا الكتاب عام 2003 كان الرجل قد بلغ السادسة والثمانين من عمره، متوقِّد الذهن، قويّ الذاكرة، حاضر البديهة، راسخ الإيمان بالمُثل الشيوعية، جريئاً في القول، لا يخاف في الحقّ لومة لائم.

Screenshot

لذلك كلّه أثار عنوان الكتاب وقت صدوره ضجَّةً لا بأس بها، فقد تناولته العديد من الصحف والمجلات العربية حتى أن مجلة (النور) الشهرية الإسلامية اللبنانية كتبت موضوعاً مطولاً عمَّا جاء في الكتاب. عبدالمُعين الملّوحي من المجاهدين “الأبدال” الذين يُصلحون الأرض بصلاحهم، كما كان يسمّيهم المفكّر العراقي الراحل هادي العلوي الذي كان رفيقاً وصديقاً ومُريداً.

كان الملّوحي يعمل كل يوم عشر ساعات، لأنه ببساطة يعتقد أنّه لا قيمة للحياة دون عمل. وكنتُ أبتسم دائماً عندما أنهي قراءة أحد مقالاته المنشورة في مجلة (الحرية) التي تصدر شركة بين الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين ومنظمة العمل الشيوعي في لبنان، ويختمها بتوقيعه المشهور: (شيوعي مزمن). إن وجود هؤلاء الأبدال في الأرض هو بحد ذاته توبيخٌ من الله لأهل السلطة والمال.

في هذا السياق يخبرنا شيخنا الجليل عبد القادر الكيلاني المتوفي في بغداد عام 561 من الهجرة أن وظيفة الحكيم هي خدمة الخلق المتعبين، وإيجاد الراحة لهم، وهذا يكون بتوفير الطعام للجياع وأهل السبيل، ليخرجوا من ذلّ الحاجة. وكان يقول فيما ورد عنه في كتاب قلائد الجواهر: فتشت الأعمال كلها فلم أجد أفضل من إطعام الجياع. أودّ لو كانت الدنيا في يدي لأطعمها للجياع. وهذا يعني جعل ثروات الأرض مشاعاً للجياع.

أوجعت مشاهد الفقر والجوع على امتداد كوكب الأرض قلْبَ عبد المُعين الملوحي، فكرّس قلمه لنصرة الخَلق، أي من أجل الجنس البشري من حيث جوهره الإنساني، بغضّ النظر عن اللون أو العرق أو الدين. وقد أسّس مشروعه في مجمل كتبه، التي زادت على المئة، على وحدتين متعارضتين؛ تتصارعان فيما بينهما حول الإنسان، الأولى تريد أن تشبعه وتكرمه، والثانية تريد أن تُجوِّعه وتذلّه، والفئة الثانية تتحمل مسؤولية المأساة الإنسانية المتمثلة في الفقر والجوع، لأن تراكم الثروة الاجتماعية لدى فئة الحُكَّام، وفئة الأغنياء، يؤدي بالضرورة إلى حرمان الأكثرية وترف الأقلية، وحرمان الأكثرية يؤدي إلى إفقارها وإذلالها. فالفقر والجوع يمنع الإنسان من حقه الطبيعي في الحياة. والذل يمسخ جوهره البشري. كما أن ترف الأقلية يؤدّي إلى فساد المترف، وإفساد غيره. ولذلك تكون السلطة والمال مصدرين أساسيين للطغيان والاستبداد.

عندما تزور منزله الذي كان في حي الشعلان بمدينة دمشق ستجد على حائط في مكتبه لوحة ببرواز جميل: (لا أريد لبيتي أن يكون مسوّراً من جميع الجهات ولا أريد أن تكون نوافذي مغلقة. أريد أن تهب على بيتي ثقافات كل الأمم بكل ما أمكن من حرية، ولكنني أنكر على أيٍّ منها أن تقتلعني من أقدامي. إنَّ مذهبي ليس ديناً مغلقاً، ففيه مجال لأقل مخلوقات).

هذه الكلمات للهندي الأشهر المهاتما غاندي، ومنها تقدر على القول بأن الملوحي كان يعتبر الشيوعية نمطاً من أنماط الحياة الحرة الكريمة الخالية من كل مظاهر العجرفة والتسلط والاستبداد، لذلك انطلق في بحثه عن المُثل العُليا حرّاً يتتبّع مراحل حياته في طفولته التي عاش فيها ظلم الإقطاعيين وعدائهم، وفي شبابه الذي لمس فيه بؤس الشعوب عامة، والعمال خاصة، في بلده وفي الأقطار التي زارها خارج وطنه.

وهو بدأ حياته أممياً مذ كان طفلاً يرضع، فبعد أن انقطع حليب أمه راحت نساء كثيرات ترضعنه، منهم أمهات أرمنيات جئن إلى مدينة حمص على نهر العاصي وسط سورية بعد المحنة التي ألمّت بالأرمن في العقد الثاني من القرن العشرين، ونساء غجريات قادمات من كلّ مكان، وامرأة مسيحية من مدينة مشتى الحلو في جبال محافظة طرطوس، وهكذا اختلطت في جسده ألبان ودماء نساء كثيرات، فإذا هو أمميّ النشأة من طفولته.

كتاب (كيف أصبحتُ شيوعياً) يمكننا القول بأنه سيرة ذاتية صاغها عبد المُعين الملوحي في قالب حكايات وجدانية اعتمد فيها مقولة من كلّ بستان زهرة، وكانت أزهاره كلها حمراء كالراية التي استظل بها حتى وفاته. تاريخ الحكايات والشخصيات والأمكنة والأحداث هي واقعية تماماً غير متخيّلة، فهي وقائع جرت حوادثها في حياة المؤلف الذي تتبدّى نزعته الإنسانية الصادقة في كل سطور الكتاب. فقد نظر إلى الإنسان من خلال سلوكه وأعماله ومواقفه، لا من خلال ديانته أو لغته أو لونه أو منبته الطبقي.

وما جاء في هوامش الكتاب خاصةً نثر فيها المؤلف مقولات فلسفية حيَّة عميقة المعنى تُمجّد الحياة الكريمة وتُناصر قضايا الشعوب العادلة وتنتقد القهر والحرمان والظلم أينما كان، وتدعو بلغة صريحة فصيحة -وقد كان عبد المعين الملوحي فصيحاً- إلى الحب والخير والعدل والجمال وغيرها من القيم النبيلة التي تغلغلت في وجدان الكاتب (الشيوعي المزمن) يؤمن بمدينته الفاضلة على طريقته الخاصة الراسخة التي لم تستطع أن تنال منها الخيبات والانكسارات والهزائم.

 

العدد 1120 - 21/8/2024