بين الشدّ والجذب.. فنزويلا إلى أين؟
د. نهلة الخطيب :
أينما يوجد النفط فإنّ أمريكا تولي وجهها، وهي تجيد خلق الأزمات هنا وهناك وتجيد إدارتها، فنحن أمام حالة أمريكية تعبّر عن المسار العام لسياسة الدولة العظمى، ولم تكن فنزويلا بمنأى عنها، ففنزويلا تتمتع بموقع استراتيجي وثروات طائلة من النفط واليورانيوم، وقد جعلها خروجها من الحظيرة الأمريكية، وسياسة إرث تشافيز التي يقودها مادورو، جعلها ندّاً أمريكياً، فحدثت قطيعة دبلوماسية بين البلدين وجرى إغلاق السفارة الأمريكية منذ عام 2019، إبان فوز مادورو في الانتخابات الرئاسية، ووقد حاول ترامب آنذاك الإطاحة به من خلال الاعتراف بخصمه خوان غوايدو الذي أعلن نفسه فائزاً.
فرضت أمريكا عقوبات اقتصادية خانقة ضد قطاع الطاقة الفنزويلي، بتُهم انتهاك حقوق الإنسان، والفساد، وقمع الديمقراطية، رغم إدراكها أن العقوبات لا تستهدف الاقتصاد بقدر ما تؤثر على الشعب، الذي يعاني الفقر المدقع وهجرة نحو ثلث السكان بحثاً عن حياة أفضل.
أنشأت أمريكا قواعد عسكرية لها في منطقة اسيكويبو الحدودية الغنية بالمعادن والنفط بين فنزويلا وغويانا، والتي تطالب فنزويلا بالسيادة عليها، وباتت جزءاً من الصراع الإقليمي في أمريكا اللاتينية، الذي رأى لافروف في حديث سابق له، أنه تكرار للسيناريو الأوكراني: (كما أعدّوا أوكرانيا ضد روسيا فإنهم يعدّون غويانا). هذا الصراع تؤجّجه أمريكا لمواجهة نفوذ للصين وروسيا في المنطقة، ولكن ولاء مادورو روسي ولايزال يرى فيه مصدر أمان في حال أصبح الوضع السياسي والاجتماعي في بلاده خطيراً للغاية.
تعدّ فنزويلا أحد أهم مصدّري النفط والغاز في العالم (25% من الاحتياطي العالمي)، كانت تنتج 3,2 ملايين برميل يومياً في 2008، وكانت تعتبر من أكبر اقتصادات دول أمريكا اللاتينية، انتقلت بفضل (النهج التشافيزي) من إحدى أفقر دول القارة الأمريكية اللاتينية شعبياً واجتماعياً، إلى واحدة من أفضل الدول ديمقراطية فيها، أقدم الرئيس تشافيز على إنجاز الكثير من التحولات الاقتصادية والاجتماعية، أحدثت تغييراً جذرياً في المجتمع لصالح الطبقات والفئات الأوسع انتشاراً، والتمتع بالحقوق والحريات لكل المواطنين، وعدم التمييز على أساس العرق، الجنس، العقيدة، كذلك التوزيع العادل للثروات الوطنية، وإقرار قانون الضمانات الاجتماعية الواسعة، ومحو الأمية تماماً من البلاد، والنهوض المجتمعي نحو التقدم والديمقراطية. هذه التحولات رافقها إنشاء الحزب الاشتراكي الموحد، وترسيخ تحالفاته التقدمية والديمقراطية، التي قامت بدور هام ومفصلي في عملية التحول التي عاشتها وما تزال فنزويلا، مدعومةً من قوى الشعب العامل الذي كان متضرراً وعانى سابقاً بسبب احتكار ثروات البلاد والتحكم بمصادرها ومصيرها.
تواصل فنزيلا طريقها نحو تجذير نهجها التشافيزي الداخلي، في تحقيق العدالة الاجتماعية، المناوئ خارجياً للانفراد في تقرير سياسات القارة الأمريكية والعالم أجمع، وخاصة بعد أفول الأحادية القطبية، وبدء تكرس التعددية القطبية العالمية، كما تدعم تطلعات الشعوب الساعية إلى تعزيز استقلالها الاقتصادي والسياسي، والانعتاق من التبعية والارتهان، وتحتل بذلك مكانة مرموقة قارياً ودولياً، وتسخر إمكاناتها الهائلة في خدمة هذه الأهداف النبيلة، وتخصص نسبة غير قليلة من ناتجها الإجمالي في سبيل مواصلة سياستها الداعمة للشعوب التواقة إلى الاستقلال الجذري الحقيقي، وعلى أساس التعاون والاحترام المتبادل لتطلعات شعوبها، ونسجت وما تزال تنسج علاقات متميزة مع الدول العربية، وساهمت بفعالية في القمة الأمريكية العربية، وهي تسعى إلى تعزيزها وترسيخها.
وترافقت هذه التغييرات الداخلية، على أهميتها، وتعززت بانتقال فنزويلا من حديقة خلفية لواشنطن (جمهورية موز) وفق التعابير الأمريكية، إلى دولة مؤثرة في القارة الأمريكية، تمثلت في اعتماد توجهات قارية منها: تأسيس الحلف البوليفاري، معاهدة التجارة بين الشعوب (آلبا)، على أساس المساواة والحوار الاقليمي، وإقرار تحالفات استراتيجية بين بلدان أمريكا اللاتينية الأكثر انسجاماً في نهجها الداخلي والقاري والدولي أيضاً، استطاعت وفق بيانات اللجنة الاقتصادية للمجموعة وكذلك بيانات منظمة العمل الدولية من تحقيق تراجع في معدلات الفقر، وهي تهدف إلى تحقيق الوحدة والسلام القاري، فضلاً عن إنشاء بتروكاريبي عام 2005، يسمح لثمانية عشر بلداً في أمريكا اللاتينية وبحر الكاريبي (ما يعادل 90 مليون نسمة) بالحصول على نفط مدعوم بنسبة تتراوح بين 40 إلى 60 %، وتأمين إمداده بالطاقة، كما تشارك البرازيل إحدى أهم دول (ألبا) و(سيلاك)، بوصفها كبرى دول القارة والمرشحة لنيل العضوية الدائمة في مجلس الأمن الدولي، في مجموعة البريكس الدولية الواعدة راهناً والمؤثرة عالمياً أيضاً.
ورداً على هذا الدور الهام القاري والدولي لفنزويلا تشهد القارة منذ أكثر من عقد من الزمن تحولات جذرية في نهجها الاقتصادي والسياسي وفي طبيعة علاقاتها الدولية، تواصل الإدارة الأمريكية الحالية، كما سابقاتها، مستندة إلى أطراف المعارضة اليمنية، على اختلافها وتنوعها، العمل على إثارة قلاقل وأعمال شغب في فنزويلا، ضد النظام (التشافيزي) في محاولة لزعزعة الاستقرار في البلاد وثنيها عن دورها القاري والدولي، تمثلت مؤخراً، بتوترات على خلفية التشكيك في صحة نتائج الانتخابات وفوز مادورو بولاية رئاسية جديدة، وهو ما يمثل استمرارية التشافيزية في السلطة على مدى 25 عاماً، رد عليها الرئيس مادورو بأنها دعوة للانقلاب على دستور البلاد، ودعا أنصاره والجيش إلى أن يكونوا في حالة تأهب أمام أعمال العنف الهادفة إلى زعزعة استقرار البلاد، مطالباً في الوقت نفسه بالكف عن التدخل في الشؤون الداخلية للبلدان ذات السيادة، واحترام قرار الوطني المستقل لشعوبها.
يبدو أن مادورو لم يسلم من إيلون ماسك وتدخلاته في انتخابات فنزويلا لتشكيل المشهد السياسي فيها عبر تطبيق إكس، بعد اتهامه بالهجوم السيبراني على المجلس الوطني للانتخابات. نائبته ديلسي رودريغيز اعتبرت (أن ديكتاتورية شبكات التواصل الاجتماعي تسعى إلى استبدال الارادة الشعبية للحكومات المنتخبة من جانب موطنيها).
إذاً فنزويلا تقف على حافة الانفجار في انتظار ما سينتهي إليه هذا الشد والجذب بين مادورو والمعارضة، تتداخل فيه عوامل خارجية: الحرب الأوكرانية، وحرب غزة، ونتائج الانتخابات الأمريكية، وماهية الصراع العالمي بين القوى العظمى، فهل ينتهي حلم تشافيز الذي ناضل من أجل العدالة؟ وهل سيؤدي هذا الانقسام السياسي ومساندة الجيش لمادورو إلى حمام دم لن يتوقف إلا بسقوط أحد الطرفين وتدخل البلاد في دوامة من الصراعات التي لا يحمد عقباها؟؟