نتنياهو.. وتكتيك القتل

ما دام الكونغرس يتبنّاه كيفما كان وأينما توجه

د. نهلة الخطيب:

إن ما يجري في الشرق الأوسط حرب حقيقية يمارس جزء منها ويخطط لاتساعها، وأن الدم والدمار يقول إنها بالفعل حرب حقيقية، وفق استراتيجية كوخافي (رئيس الأركان السابق للجيش الإسرائيلي)، (بتكتيك القتل، الانتصار في المعركة مهما كانت خسائر الطرف المقابل). ايباك وايزمن الباحث اليهودي يقول (إن الجيش لا يقتل لكي يسيطر بل يسيطر مؤقتاً من أجل قتل كل أعدائه، فالهدف في النهاية هو القتل، وتحقيق النصر الواضح)، بتلك الاستراتيجية اختارت إسرائيل أن تحسم معركتها مع الفلسطينيين منذ نشأتها عسكرياً، وقتل أكبر عدد ممكن منهم لكسر إرادتهم، وتعزيز حالة الردع.

لطالما سعى نتنياهو إلى جرّ أمريكا إلى حرب في منطقة الشرق الأوسط، كمخرج لأزمته الداخلية والهروب للأمام، ورسم صورة المنتصر ليضمن بقاءه في السلطة، أو ربما محاولته استعادة قوة الردع الإسرائيلية التي تهاوت بعد طوفان الأقصى، وتحقيق إنجاز لبايدن وكاميلا هاريس والحزب الديمقراطي، أمام اخفاقات متعددة في الملف الفلسطيني وتورطهما في حرب أوكرانيا. ووسط التيه الانتخابي الأمريكي، كان التصفيق الحار لنتنياهو في الكونغرس بمثابة الضوء الأخضر لفتح كل الجبهات والبدء بتوسيع الحرب إلى حرب شاملة ضد أعداء أمريكا وإسرائيل دون أن تكون نتائجها محسومة له، استهلّها بالاغتيالات السياسية لقيادات من الصف الأول في المقاومة اللبنانية والفلسطينية: فؤاد شكر الرجل الثاني لحزب الله في الضاحية الجنوبية ببيروت (رداً على استهداف أطفال من العرب السوريين في الجولان الذين رفضوا الهوية الإسرائيلية)، وإسماعيل هنية (رئيس المكتب السياسي لحماس) في قلب طهران، في انتهاك فاضح لسيادة وهيبة دول ذات سيادة، وتهديد للسلم والأمن الدوليين دون مراعاة القوانين والمواثيق الدولية.

اغتيالات تشير إلى محاولات إسرائيل تأكيد قدرتها على تنفيذ عمليات معقدة تتجاوز الحدود تحت شعار (يد إسرائيل الطويلة)، وتوجيه رسائل قوية في المنطقة، وجر قوى كبرى (الناتو وأمريكا، لدعم إسرائيل وحمايتها وحماية مصالحها الاستراتيجية في المنطقة، وهذا أكده وزير الدفاع الأمريكي لود اوستن (إن أمريكا سوف تدافع وتحمي إسرائيل)، وقد تسهم في إحداث تغييرات جذرية في السياسة الاقليمية، وتغيرات جيوسياسية، وتغييرات في موازيين القوى، وإحباط محاولات النفوذ الإيراني والصيني والروسي في المنطقة، فهذه منطقة نفوذ أمريكية لا يجوز تجاوزها من قبل أطراف دولية أخرى. منذ اندلاع الحرب في غزة كانت أحداثها تشي باحتمالات توسعها لتصل إلى حرب اقليمية شاملة، في الوقت الذي كانت أمريكا تعلن عدم رغبتها في الانجرار إليها، ووجدنا التأهب العسكري الأمريكي بأعلى مستوياته. أمريكا غير قادرة على منع نتنياهو وجنرالاته ما دام الكونغرس يتبناه كيفما كان وأينما توجه، أمريكا وحلفاؤها تحرك أساطيلها في المتوسط لتعلن أنها ستكون مع إسرائيل استراتيجياً وعسكرياً وسياسياً ومعنوياً، إذا ما تطورت الحرب إلى المستوى الاقليمي الشامل، وهي تدرك حجم الأزمة التي تعيشها إسرائيل بشكل غير مسبوق منذ قيامها.

سياسة الاغتيالات التي تنتهجها إسرائيل جزء من العقيدة الأمنية الإسرائيلية وتمارسها منذ 100 عام، لضرب فكر وعقيدة المقاومة في المنطقة سواء في فلسطين ولبنان، وهي ليست وليدة الأحداث بل إرث قديم عن السياسة الأمريكية والراسخة في مواجهة خصومها، والتي توارثتها عن بريطانيا للقضاء على أي حركة أو تيار مناهضة لها، وهذا يؤكد التوءمة في التفكير وثقافة القتل والمصالح الاستراتيجية، فقد قامت إسرائيل بتنفيذ عمليات مشابهة في السابق راح ضحيتها نخبة من المفكرين والأدباء، وقيادات العمل الفدائي الفلسطيني (أبو عمار وأبو العباس وأحمد ياسين وأبو علي مصطفى، وقبلهم أبو جهاد الوزير وصلاح خلف وأبو الهول وغيرهم)، وتحولت إلى سياسة ممنهجة وجزء من الحرب على الإرهاب، لكن هذا زاد الشعب الفلسطيني تشبثاً بأرضه وحقه في إقامة دولته وكانت المحصلة طوفان الأقصى التي تعد أكبر هزيمة بتاريخ إسرائيل.

مشاريع التصفية الدموية والسياسية هي الأسهل لنتنياهو لأنه لا يمتلك بدائل بعد فشله في الحرب في غزة وتحقيق أهدافه المعلنة، وهو يراهن على الوقت لترتيب أوراقه المبعثرة، لإملاء شروطه لوقف القتال وإتمام صفقة التبادل، ولكنه تخطّى الخطوط الحمراء في الاستهدافات على المستوى الجغرافي والمدني والقيادي، والصبر الاستراتيجي لإيران في المناخات الجديدة قد تغير، لذا فهي مضطرة للرد دفاعاً عن هيبتها وسيادتها التي انتهكتها إسرائيل مراراً، وإذا كانت إيران عاجزة عن حماية هنية وهو في ضيافتها، فكيف لها أن تحمي لبنان وسورية والعراق واليمن وغزة التي تواجه إسرائيل عارية دون مغيث منذ عشرة أشهر، هذا ما يضع محور المقاومة أمام اختبار كبير وصعب لإعادة حساباته واتخاذ خطوات رادعه، وإلا فإن إسرائيل ستتجرأ أكثر، فالرد سيكون أكثر صرامة في عمق إسرائيل، وسيؤدي إلى تسارع الأحداث إذا لم يتم الاتفاق على وقف إطلاق النار، وحتى لو توقفت حرب غزة  فالحرب ضد حزب الله مستمرة حتى تحقيق أهدافها، (وإن استحال ذلك)، لذلك نحن أمام تصعيد حتمي لن ينتهي الا بحرب كبرى أو تسوية كبرى، والمنطقة ستبقى تحت النار حتى الحسم الانتخابي الأمريكي ورؤية الإدارة الجديدة وإن كانوا سواء.

التوافق الأمريكي الإسرائيلي لتسهيل العقيدة الإسرائيلية والإبعاد القسري للفلسطينيين في غزة والضفة الغربية، والقضاء على حماس رداً على طوفان الأقصى، وأن لا تخرج منتصرة، مع خشية الأمريكي من الكارثة الانسانية إذا فشلت المفاوضات السياسية. أمريكا تختبئ وراء إصبعها وتحاول الوصول إلى تفاهمات انتقالية وليست مصيرية، كحل الدولتين كما يجب أن يكون، ونحن بعيدون عن ذلك للأسف، فقد كان الرد الإسرائيلي، الذي لا يرى الحل بحل الدولتين، لأن الدولتين موجودتان أصلاً: دولة إسرائيل، والأردن كوطن بديل الفلسطينيين.

الانقسام الفلسطيني يؤذي الفلسطينيين أكثر من غيرهم، ويستدعي من الكل الفلسطيني مراجعة مسيرة العمل الوطني وتقييمها، لتخلص إلى رؤية موحدة في إطار منظمة التحرير الفلسطينية رغم علاتها، ومحاولة إصلاحها، والالتزام بإعلان بكين بهدف خلق توازن استراتيجي مع قوى كبرى صديقة يضمن الحق الفلسطيني، وتجنب الكارثة بحرب الإبادة في غزة، ومواجهة المشروع الإسرائيلي والصهيونية العالمية بنكبة جديدة في ظل الغياب العربي والعالمي، أمام تلك الصدمات لا يجدي ولا يهم الرد والرد على الرد، فالوقت يداهمنا. بإنهاء الانقسام نعيد البريق للمقاومة الفلسطينية، ونبتلع الخيبات، ونرد ونرد.. ولن نقبل إلا برأس نتنياهو.

العدد 1120 - 21/8/2024