فليسقط العالم!

د. نهلة الخطيب:

تحت شعار (الخير والشرّ) الذي يجري تعريفه بالإرهاب الإسرائيلي، استقبل نتنياهو كبطل يحمل رايات النصر، في الكونغرس الأمريكي حيث ألقى خطابه، فاق تشرشل بحرارة التصفيق، مؤكداً عدم الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني واستمراره على مواصلة الإبادة الجماعية في غزة، والمذابح التي ضحاياها من المدنيين وخاصة الأطفال، وتهجير ما يقارب المليونين من السكان بممارسة سياسة التجويع والحصار الخانق، ولا أفق يظهر سوى الموت والدمار. لا مجال عن توقف نتنياهو عن السياسات العمياء التي لا يمكن لأحد التكهن بها، بل إنها حرب مفتوحة على كل الوسائل والزمن، ليس دفاعاً عن إسرائيل، بل من أجل بقائه في السلطة، وإبادة الشعب الفلسطيني، (فالفلسطيني إما عبد، أو في القبر، أو خارج البلاد)، وفقاً للايديولوجيا التلمودية والتعاليم العنصرية المعادية لكل من هو غير يهودي (الأغيار)، والتي أنتجت الصهيونية الدموية، (فإسرائيل قامت بالدم، وتقوم بالدم)، وتحقيق النصر المطلق، ناسفاً كل الاتفاقيات والمناشدات بإيقاف الحرب، أبعد بكثير من أن يكون ثأر برابرة، أهو سقوط  الرأي العالمي أم سقوط العالم ؟!

هذه هي المرة الرابعة التي يخاطب فيها نتنياهو الكونغرس، الراعي الأكبر للإرهاب، وقد ظهر أكثر قوة من أي رئيس أمريكي، وقد جرت دعوته بعد أن أدانته وأدانت دولته محكمةُ العدل الدولية وبعد أن طلبت ملاحقته محكمةُ الجنايات الدولية، متجاهلين بايدن ونائبته كاميلا هارس التي أطلقت تصريحاً يدعو إلى وقف الحرب، وأنها (لن تصمت عن معاناة أهل غزة). تأكيد المؤكد على الانحياز الأمريكي المطلق لإسرائيل، والكونغرس الذي صفق لمذابح نتنياهو أكثر من ثمانين مرة يمول ويسلّح مجرمي الحرب في غزة، فالولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها يدعمون إسرائيل ظالمة أو مظلومة، فلولا أمريكا ما كان بالإمكان أن توجد، لا إسرائيل دون أمريكا، شريكاً استراتيجياً ومحط قدم في الشرق الأوسط، تدعم سياساتها وتغطيها، وهي التي أوصلت المنطقة إلى حافة حرب إقليمية واسعة قد تجرّ، للمشاركة فيها، دولاً عظمى، وتحرق الأخضر واليابس.

تأتي زيارة نتنياهو في سياق الانتخابات الرئاسية، ورغم أن الحركة الصهيونية تتجنب الانحياز لحزب دون الآخر في النظام السياسي الأمريكي، لكن نتنياهو هواه جمهوري عكس أمله بفوز ترامب وحزبه، ليس حباً فيه، وانما لإعادة إحياء (صفقة القرن) التي سقطت بسقوط ترامب في السباق الرئاسي السابق، عندما رفض بايدن الانجرار في مستنقع الشرق الأوسط، وظهرت خلافات تكتيكية بين بايدن ونتنياهو حول أسلوب الأخير في إدرة حرب الابادة وصفقة التبادل ورؤيته لليوم التالي للحرب، انتقل الرهان على ترامب، بايدن الذي أرسل إلى نتنياهو كمية من القنابل يتعدى مفعولها قنبلة هيروشيما، يؤكد لإسرائيل التأييد لاستمرار وجودها، فإسرائيل في الدولة العميقة والفكر المتصهين هي المرجعية والعلاقة بينهم حميمية ومعقدة، (تماثل منهج إقامة الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل وفق سياسات التطهير العرقي هنا وهناك)، وهو لا يضغط لوقف اطلاق النار، بل ويعطله بالفيتو، يستشعر مدى التداعيات الكارثية على مصالحهم الاستراتيجية إذا ما مضت إسرائيل في حربها على غزة، لا تهدد بنشوب حرب شاملة فقط بل إنها تؤثر في توازن القوى وتستهدف القوات الأمريكية والغربية في الشرق الأوسط، وتخفف الضغط على روسيا وتقدم فرصاً جديدة للصين، وكان اتفاق بكين الذي وضع خطوات للمصالحة الفلسطينية فرصة وضع بصمة صينية في النزاع الفلسطيني الإسرائيلي رغم عبثية الحوار الذي لن يصل إلى نتيجة كما كل جولاته. وبالرغم من أن الصراع العربي الإسرائيلي له مفهومه الخاص، لا يخضع للتوازنات الدولية، إلا أن التطابق بين خريطة المواقف بشأن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وخريطة الانقسام الدولي الكبير تجعل من الصراع في غزة أحد تجليات الصراع والانقسام الدولي الراهن، وتحدياً أخلاقياً وسياسياً للغرب بما يجعل من هذا الصراع عاملاً يسهم في تدهور مكانة الغرب وأمريكا في العالم، فلا تستغرب إن كانت من غزة ولادة نظام عالمي جديد ونهاية القطبية الأحادية.

رفع الغطاء الأخلاقي عن إسرائيل، لم تعد تلك الدولة الديمقراطية في الشرق الأوسط والنموذج الذي ينبغي محاكاته في دول المنطقة، وأن تقف إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية في غزة هو عار لن تستطيع أن تمحوه، فالصورة التي رسمتها لنفسها واستطاعت تسويقها في العالم بدعم من أمريكا وحلفائها كدولة ديمقراطية ودولة قانون وضحية للإرهاب الفلسطيني والعربي وفكرة إزالتها من الوجود، تحطمت ولا يمكن إعادتها، فهي تواجه وضعاً لم يسبق له مثيل منذ قيامها، كيف للخيال التوراتي في إسرائيل أن يستوعب ما حدث وما يحدث في غزة؟ حرب لم تتوقعها إسرائيل التي اعتادت على حروب تحسمها بأيام، خسائر بشرية واقتصادية ومعنوية، صراع داخلي، وارتدادات خارجية هذا مالم تتوقعه بتاتاً، فجيشها مرهق، وجنودها مرعوبون، فوضى هستيرية داخل المجلس الوزاري المصغر وعجز عن اتخاذ أي قرار سواء داخلياً أو خارجياً، ما يعكس مدى التخلخل البنيوي في المؤسسة المجتمعية والعسكرية، دول تتمرد على الحظر في الاعتراف بالدولة الفلسطينية، فهذا يعني انقلاب الوضع الخارجي الذي كان دائماً في مصلحة إسرائيل، كل ذلك يضع إسرائيل أمام مخاطر وجودية وخطوة في طريق الانحدار، والأفق بات أمامها ضيق.

يلقي نتنياهو خطابه في الكونغرس وحربه فاشلة من دون ظهور مؤشرات على نهايتها، إسرائيل خاسرة بكل المقاييس، بعد عشرة أشهر من الحرب وفشل تحقيق أهدافها، وغزة منتصرة، رغم كل الآلام، بصمودها أمام أعتى جيوش العالم، وأمام الترسانة العسكرية الأمريكية والغربية. فلولا التغطية اللوجستية الأمريكية والغربية لإسرائيل، لشهدنا انهيارها، فإسرائيل التي تحاول أن تدفن غزة تحت الأنقاض، هي أيضاً تحت الأنقاض. وحين يتوج نتنياهو ملكاً في أمريكا، فأصل الحكاية أمريكا ثم إسرائيل، دعونا ننتظر الخطاب الفلسطيني، خطاب المنتصر، وهو قادم لا محالة.

 

العدد 1140 - 22/01/2025