قمة الناتو.. أوربا العارية بين أمريكا وروسيا
د. نهلة الخطيب:
عندما أرادت روسيا أن تظهر كدولة عظمى، كانت البداية بكسر هيبة القيصر، والعودة إلى روسيا العظمى بإنشاء حزام عسكري في الشرق الأوربي حولها، وجدت روسيا نفسها أمام وضع معقد، وتوسع حلف الناتو كان أحد الأسباب الدافعة لتحرك موسكو العسكري ضد أوكرانيا، فكانت الحرب كتدبير لاحتواء التهديد الخطر من الناتو، وتلخصت أهدافها بلجم التهديدات الأساسية المتعلقة بتوسع البنية التحتية العسكرية لحلف الناتو شرقاً من الحدود الروسية، والتطور العسكري لأوكرانيا، ونيتها الانضمام إلى حلف الناتو.
بدا جلياً أن الناتو متورط في الصراع الحالي بأوكرانيا، الذي هو امتداد للصراع التاريخي الجيوسياسي بين أمريكا وحلفائها الأوربيين من جهة، وروسيا من جهة أخرى، الصراع عميق والعداء متأصل، والحرب عملياً بدأت منذ انهيار الاتحاد السوفييتي وتفكيك حلف وارسو، والحرب الدائرة في أوكرانيا ما هي إلا إعادة المواجهة بين روسيا والغرب إلى الواجهة مجدداً. في تعليق للنائب الجمهوري سيث مولتون حول الحرب: (لسنا في حالة حرب فقط لدعم أوكرانيا نحن في الأساس في حالة حرب مع روسيا، وإن كانت تشن بالوكالة). أوكرانيا ماهي إلا أداة سياسية أمريكية لاحتواء روسيا وتهديد أمنها القومي وسيادتها. والروس يعتبرون أن الأمريكيين يغزون بلادهم عبر أوكرانيا، وهم يدافعون عن بقائهم ما دام شريان الأسلحة موجوداً والدعم اللوجستي لأوكرانيا، مع إدراك روسيا أن هذه المعركة ورغم استفرادها بأسلحة نوعية لن تُحسم بسهولة، وهذا ليس في صالحها لأن الغرب والولايات المتحدة الأمريكية يغدقون بالمليارات لتمويل هذه الحرب.
بعيون شاخصة تابعنا قمة حلف الناتو التي عقدت في واشنطن، في ظروف من عدم اليقين السياسي في أوربا، بعد الفوز الذي حققه اليمين المتطرف في انتخابات البرلمان الأوربي، وحالة الشلل التشريعي في فرنسا، وتراجع ائتلاف المستشار الألماني أولاف شولتس، إضافة إلى ظهور امتعاض أوربي حول تسلم المجر لرئاسة الاتحاد الأوربي، التي ترى أنها الأسوأ، بعد زيارة أوربان لموسكو وبكين ولقاء مرتقب مع ترامب، وتأتي القمة بعد أداء بايدن السيئ في مناظرته مقابل خصمه الانتخابي ترامب، تراجع شعبية بايدن وتقدم ترامب في استطلاعات الرأي، قد تقلب السياسة الخارجية رأساً على عقب، فترامب له أولوياته وخياراته بشأن الملف الأوكراني، بعد فشل إدارة بايدن فيه، ويرى أن الحرب كارثة للجميع يجب إيقافها، ويرى أن حلف الناتو منظمة (عفا عنها الزمن).
الحرب المباشرة بين الدول العظمى مستحيلة والسلام أيضاً بينها غير ممكن، لذلك الصراع مستمر ويتخذ أشكالاً مختلفة، وعلى الدول الضعيفة والصغيرة أن تكيف نفسها لتدفع أقل ثمن في هذا الصراع، كانت القمة بداية حرب باردة جديدة وسباق تسلح جديد بين روسيا ودول الناتو، والحوار لا يزال بعيداً عن طرفي النزاع روسيا وواشنطن، لا رغبة لأحد بحل الأزمة الأوكرانية بالمفاوضات، كلما صعّد الناتو تصعّد روسيا، لا روسيا ستهزم ولا الناتو سيهزم، المزيد من المساعدات العسكرية والمزيد من الاتفاقيات الأمنية، بين حشد وحشد مضاد، تحولت أوكرانيا إلى مسرح لعروض الأسلحة وتجربتها نحو مستويات غير مسبوقة في زخمها وخطورتها، ما بين أسلحة تقليدية إلى أنظمة دفاع جديدة وأسلحة متطورة، بدءاً بالمسيّرات والدبابات والصواريخ متوسطة المدى ومضادات الدروع وغيرها، إلى الدرونز وراجمات صواريخ هيمارس الأمريكية وF16، إلى جانب الأسلحة الاستراتيجية والنووية. الناتو سيواصل الدعم العسكري واللوجستي لأوكرانيا (مهما طال الأمر)، ويعلن جاهزية قاعدة أمريكية في بولندا متزامنة مع مناورات عسكرية بين الصين وبيلاروسيا على الحدود البولندية، مع خطة سرية للعمل في حالة الطوارئ تتضمن نقل قوات الناتو والإمدادات من الغرب إلى الشرق عبر الأراضي الألمانية، ونشر صواريخ طويلة المدى في ألمانيا اعتباراً من عام 2026، ورغم ذلك لا يمكن مساعدة أوكرانيا بكميات أسلحة كبيرة قادرة على موازنة قوة روسيا، وتقديم سلاح يشكل تهديداً استراتيجياً لروسيا سوى السلاح النووي وهذا لا يكون بسهولة، وإذا كانت روسيا ستستخدم الأسلحة النووية ضد أوكرانيا، فمن المحتمل أن ترد الولايات المتحدة الأمريكية بأسلحة مماثلة ستكون مدمرة للبلدين وكل الغرب، لتضع القارة الأوربية والعالم أمام أخطر صراع جيوسياسي.
التوتر لن يصل إلى تلك النقطة الذي يحصل فيها الصدام، لكننا بحالة عدم ثقة بين الطرفين، والجميع يتجهز لإمكانية حدوث المواجهة، لأن المواجهة بين القوى الكبرى ستكون مدمرة للعالم وليس للطرفين فقط، لذلك نجد الجميع يتحاشى هذا الصدام، هي رسالة طمأنة للأوربيين الذين بدؤوا يستشعرون الخطر الروسي بشأن تمدد محتمل لروسيا قد يطول أراضي التكتل الأوربي خط الدفاع الأول للمواجهة، وأهمية تطوير المنظومة الدفاعية بعيداً عن أمريكا استعداداً لاحتمال ولاية جديدة لترامب، وانسحاب أمريكا من الناتو ستكون نهاية الحلف ونهاية الردع .
لم يُتخذ القرار بالحروب الكبرى وما يحدث حالياً في أوكرانيا مناوشات عسكرية حامية، وهي مجرد رسائل وإن كانت دموية، ولن تنتهي الحرب إلا بشعور روسيا بضعف قدرتها على تحمل تكاليفها الباهظة أو بشعور الغرب على تقدم روسيا على الأرض، ومن تدابير احتواء التهديد الأطلسي اتساع دائرة الحرب، بحرب شاملة يتخذ فيها بوتين قراراً باحتلال كل الأراضي الأوكرانية وإعلان تشكيل حلف عسكري يضم القوى الدولية والإقليمية في مواجهة حلف الناتو والولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية، الحرب ستنتهي بطريقة ما، ومن الصعب التكهن بنهايتها وإمكانية تحولها إلى حرب عالمية نووية، وستبقى هناك بعض الحروب المسموح بها سواء مباشرة أو بالوكالة ليتم إخراج مولود جديد يتقاسم العالم الذي سيتغير باتجاه استراتيجيات جغرافية جديدة، فلهذا نسمع طبول الحرب هنا وهناك لإعادة التموضع في الأسس الجديدة للنظام العالمي. أشهر تفصلنا عن موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية، التي ستؤشر إلى طبيعة الحل القادم، وقد تترك نتائجها انعكاسات كبيرة على أكثر من صعيد في الكثير من الملفات الساخنة في مناطق مختلفة من العالم.