لحظة
د. أحمد ديركي:
تستخدم كلمة (لحظة) للتعبير عن أكثر من حالة، لكن كل معانيها واستخداماتها تتقاطع في نقطة واحدة مفادها الانتظار لفترة قصيرة من الزمن لاعتبار معين، أو أكثر من اعتبار. كلمة يمكن استخدامها أينما أردنا سواء في الكتابة أو القراءة أو التحدث، ولو باللهجة العامية. فهي إحدى الكلمات المشتركة، في اللغة العربية، بين اللغة المحكية واللغة الفصحى.
لذا يمكن اعتبار هذه المقال مجرد لحظة لا أكثر، لأنه يتوقف لحظة عند أكثر من قضية يتناولها المقال، مع العلم أن جميع هذه القضايا متشابكة متداخلة فيما بينها وإلا أصبحت اللحظة مجرد لحظة لا معنى لها لاحتوائها على أكثر من قضية لا رابط بينها. وكثرة قضايا اللحظة تفقد اللحظة ضرورتها، وتتحول إلى مجرد وقت ضائع لا فائدة منه، حتى لا يمكن اعتباره وقت استراحة.
لحظة: هناك تظاهرات صهيونية في فلسطين المحتلة ضد سياسات المجرم نتنياهو وحكومته الصهيونية. لا أدعم هذه المظاهرات ولا أقول بديمقراطية هذا الكيان ولا أعترف بهذه المظاهرات على أنها تحركات مطلبية ديمقراطية، بل أعارضها وأقف موقف النقيض منها. إنها مظاهرات صهيونية بامتياز من أجل تحرير حفنة من الصهاينة القتلة الذين تأسرهم حماس. لا هَمَّ عند هؤلاء الصهاينة المتظاهرين سوى تحرير هذه الحفنة، كيف يتم التحرير غير مهم! تظاهروا لأن هذا الكيان الذي يمثلهم فشل في ذبح كل الشعب الفلسطيني. نعم، فليذبح كل فلسطيني من أجل تحرير هذه الحفنة الصهيونية المجرمة. فشل الكيان الصهيوني بذبح كل الشعب الفلسطيني لتحرير الأسرى الصهاينة أمر دفع بهذه الحفنة الصهيونية إلى الضغط من أجل اتباع سياسة المفاوضات من أجل تحرير الأسرى.
لحظة: يرتكب الكيان الصهيوني أبشع جرائم الحرب، وغير الحرب، ضد الإنسانية. والعالم يشاهد ما يجري، وكأن ما يُرتكب من جرائم إبادة ضد الشعب الفلسطيني تجري على كوكب المريخ لا ضد كائنات بشرية. شكراً لجنوب إفريقيا التي أعادت المسألة إلى الكرة الأرضية وحركت المنظمات الدولية ضد هذا الكيان الصهيوني المغتصب لأرض فلسطين ومرتكب الجرائم ليس فقط ضد الشعب الفلسطيني، بل ضد البشرية. وشكراً لبعض دول أمريكا اللاتينية التي طردت سفراء الكيان الصهيوني من أراضيها وأخذت موقفاً واضحاً وصريحاً من الكيان الصهيوني. في الوقت الذي تخاف فيه الأنظمة العربية المطبعة مع الكيان من أن تخدش شعور سفير الكيان لديها بكلمة أو فعل أو اعتراض!
لحظة: شكراً لكل مقاوم أينما وجد على الكرة الأرضية اتخذ موقفاً، مهما كان نوعه من الكتابة إلى التظاهرات إلى المقاطعة إلى حمل السلاح…، ضد الكيان الصهيوني. والشكر الأخص لمن هم ليسوا عرباً. نعم ليس عربياً، لأن فلسطين قضية عربية ولا يشكر من يعمل من أجل قضيته، فهل تُشكر الأم لأنها تهتم وتحمي أطفالها؟ فما حدث من تظاهرات، طلابية وجماهيرية، في كل أنحاء العالم، وبخاصة في أوربا الغربية، لا الشرقية، وفي الولايات المتحدة الأمريكية ما هو إلا تعبير عن مدى اهتمام هؤلاء المقاومين، نعم مقاومون، بحقوق الإنسان فعلياً لا لفظياً. وإن كان هناك بعض التحفظات حول هذه المقاومة الشعبية الأممية فيما يتعلق بالموقف من القضية الفلسطينية، وليس فقط بمجريات الأحداث في غزة.
لحظة: ما يحدث حالياً من جرائم إبادة وذبح ضد الشعب الفلسطيني ليست بالشأن المستحدث من قبل هذا الكيان وحلفائه، بغض النظر عن التسميات التي تطلق على هؤلاء الحلفاء، فحلفاؤه أنظمة عربية وغير عربية. للتذكير فقط مجزرة تل الزعتر، في بيروت، كان مخيماً للاجئين الفلسطينيين، ويسكن معهم فقراء لبنان. حاصرته قوات عربية كانت موجودة في بيروت بالتحالف مع النظام السياسي اليميني الطائفي وحزب يميني، إلى أن مات معظم من فيه من العطش والجوع، طبعاً إضافة إلى القصف. وبقي الحصار والقصف قائماً حتى أعلن سقوطه. وخلال الحصار من قبل الحزب اليميني والقوة العربية الموجودة في بيروت، كان أحد قياديّي الجيش اللبناني يعطي الإحداثيات لحزب اليمين لقصف المخيم، وبقي في الخدمة العسكرية إلى أن ترقى ونُصب مؤخراً في مركز سياسي مرموق. وعندما أعلن سقوط المخيم، وكالعادة، وبموافقة دولية كاذبة أتى الصليب الأحمر الدولي لإخراج الجرحى والحالات الإنسانية. وهذه أحد أحداث إخراج الحالات الإنسانية: وصلت قافلة الصليب الأحمر الدولي المحملة بالجرحى والحالات الإنسانية خلال انتقالها من مخيم تل الزعتر باتجاه بيروت إلى حاجز مفاجئ أقامه الحزب اليميني. أوقف الحاجز قافلة الصليب الأحمر الدولي وطالب بتفتيش القافلة. نزل مسؤول القافلة، وهو مسؤول رفيع في الصليب الأحمر الدولي، من سيارته ورفض طلب الحاجز. لم يمتثل عناصر الحاجز لاعتراض مسؤول القافلة وقاموا بتفتيش القافلة في إحدى سيارات الاسعاف كان هناك امرأة فلسطينية حامل. دخل عنصر من الحزب اليميني إلى السيارة قتل المرأة وبقر بطنها وأخرج الجنين من أحشائها ورمى به، ثم خرج من سيارة الإسعاف. عندما سأله مسؤول الصليب الأحمر الدولي عن سبب فعلته أتت الإجابة على النحو التالي: لو لم أفعل هذا لكانت أمه سوف تلده في الغد ويصبح مقاتلاً ضدنا! أكملت القافلة مسيرتها، وعندما وصلت إلى بيروت قدم المسؤول استقالته من الصليب الأحمر الدولي. القصة موثقة من قبل طبيب كان موجوداً في تل الزعتر وخرج مع من خرج بعد إعلان السقوط.
طبعاً هناك أيضاً مذبحة أخرى، وصنفت على أنها أبشع جريمة في القرن الـ20. إنها جريمة مذبحة صبرا وشاتيلا، التي حدثت بتوافق عربي أمريكي، وارتكبت على يد حزب لبناني بتغطية ودعم من قبل الكيان الصهيوني. والمضحك المبكي في هذا أن أحد قادة مرتكبي مجزرة صبرا وشاتيلا أصبح وزيراً وحليفاً لقوى سياسية تدعي حمل لواء القضية الفلسطينية، ونظام عربي، وأصبح هذا الوزير يلقب بـ(أبو علي حبيقة)!
لحظة: يخفت وهج القضية الفلسطينية ومن ثم يعاود الصعود. يا لها من دائرة مغلفة تحوي لعبة لولبية تدور باتجاه الداخل، فمع كل إعادة وهج تصبح القضية الفلسطينية أصغر. يحتل الكيان الصهيوني أراضي دول عربية محيطة به. وهو الآن بحالة ارتكاب مجازر داخلية، أي أن آلته الحربية وكل قواه مركزة باتجاه الداخل. فهل من دولة عربية ذات أراض محتلة تريد أن تحرر أرضها، وهذا حقها بالقانون الدولي؟ يبدو لا! لأن ما من دولة عربية أرضها محتلة شنت حرباً على الكيان لتحرير أرضها، ولن نقول لتحرير فلسطين، منذ عقود إلى حد يصعب القيام بعمل كهذا الآن لأن أسلحة جيوشها موجهة باتجاه آخر.
واقع سمح للكيان الصهيوني بقضم أراض عربية وفلسطين أيضاً. فحالياً تقلصت القضية الفلسطينية لتصبح محصورة بحدود غزة! وكل متابع لمجريات الأحداث اليوم في فلسطين يدرك أن فلسطين أصبحت غزة! إضافة إلى فلسطين ضد فلسطين، وليس فقط الكيان الصهيوني وحلفاؤه ضد فلسطين! نعم فلسطين ضد فلسطين. فلسطين الضفة، بقيادة أبو مازن، تحضر نفسها لحكم فلسطين غزة، وفلسطين غزة تطالب باستقلاليتها عن فلسطين الضفة، ولا مانع لديها أن تتولى سلطة الضفة إن أمكنها ذلك. تسير القضية الفلسطينية بحركة لولبية باتجاه الداخل، أي باتجاه التقلص!
فهل يعقل أن فلسطين غزة تُذبح وتحرق وتدمر، وفلسطين الضفة تنعم بسلام زائف ومؤقت؟ نعم يعقل! خلال اجتياح الكيان الصهيوني لبيروت، 1982، كانت بيروت الغربية تقصف وتدمر و(جمول) تقاوم، وبيروت الشرقية تقيم السهرات والليال الملاح ويُحتفل بالجيش الصهيوني.
لحظة: أنظمة عربية طبعت مع الكيان الصهيوني، ولم يبقَ سوى قلة قليلة لم تطبع. ومن لم يطبع لم يقطع علاقاته مع من طبع، ومن طبع لم يقطع علاقاته مع من لم يطبع. طبعاً قطع العلاقات بين الدول العربية أمر يعود إلى مزاجية الحاكم بأمره. فأعداء الأمس، من الدول العربية، هم حلفاء اليوم، وحلفاء اليوم قد يصبحون أعداء الغد. ها هي الحال بين الدول العربية. وعند مراجعة العلاقات بين الدول العربية، سابقاً كانت تبنى على أسس سياسية، وفي جزء منها شخصي، وحالياً لا أسس لها. وجامعة الدول العربية لا نفع منها سوى إنفاق الأموال وتحضير المؤتمرات الصحافية والصور التذكارية والخطابات الجوفاء. تعقد قمتها بدولة عربية مطبعة مع الكيان الصهيوني ويحضرها من هو غير مطبع ليعلن موقف اللا موقف.
لحظة: كفى لحظات! علينا العودة إلى قراءة (ما العمل؟) والفكر الماركسي اللينيني لتخطي (اللحظة). قد يقول البعض قد عفا الزمان على كل هذا الفكر، وهو بعيده المئة. أي أنه فكر شاخ وعليه أن يتعصرن ليواكب اللحظة. نعم الفكر يشيخ عندما يتحجر، ويتحالف مع الطبقة البرجوازية والسلطة السياسية بطريقة مباشرة أو غير مباشرة ويتوهم بأنه من خلال تحالفه هذا يحقق واقعية فكره، ويتوهم بأنه من خلال موقع منحته إياه السلطة السياسية، يمكنه القيام بفعل التغيير. لكنه فكر يبقى شاباً ومنتجاً ما دام يسير بمنهج ديناميكية الدياليكتيك المادي والتاريخي، لا الدياليكتيك الهيغلي. فالحزب الحامل لهذا الفكر لا يشيخ إلا مع تحقق الاشتراكية، وتحقيقها ممكن في بلداننا، لأنه حينئذٍ ينتقل إلى مرحلة فكرية أخرى.
نعم، تحقيق الاشتراكية ممكن أينما كان، وليس كما يدعي البعض استحالة تحقيقها في دول ما زالت الرأسمالية لم تنضج بها. وما هذا القول، عدم إمكانية تحقيق الاشتراكية في بلدان لم تنضج به الرأسمالية، إلا قول انهزامي للانسحاب من معركة الصراع الطبقي وتبرير التحالف مع الطبقة البرجوازية والنظام السياسي.