اسمح لنفسك الحقيقية أن تُحلّق

د. عبادة دعدوش:

لا شك في أن ّكل نفسٍ على هذه الأرض تسعى بوعي أو دون وعي للعودة إلى أصلها وجوهرها الحقيقي بعيداً عن تشكيلات الخارج أو ألوان العالم المحيط وما يحكمه من عادات وقواعد وأسس وغيرها. وهذا ما يجعل كل فرد واعٍ يسعى دوماً لإشباع روحه الأصيلة بكل ما هو متفرّد وحقيقي يشبه أصالتها كما خلقها الله سبحانه وتعالى. ومن هنا يتبيّن لنا معنى أنّ الإنسان خلال رحلته في الحياة سيبقى ضمن دائرة وعي مجتمعه حتى يقرّر من داخله مغادرة المكان والأشخاص الذين لا يحملون رسالته نفسها ولا يشبهونه بالوعي والتفكير.

لقد لفتتني إحدى عبارات الكاتبة فردوس عبد الرحمن التي تقول فيها (أنت غير ملائم، تعني أنك لست مطابقاً لشروط الجماعة، والشروط هي وعي جمعي زائف ومضلل. قل لنفسك: لماذا أُزيّف نفسي حتى أتماهى مع هذا الوعي الزائف؟ ماذا يحدث لو أنني سمحت لنفسي أن تكون كما هي؟).

إن الكاتبة قد تطرّقت لأهم المواضيع حساسية، والمسؤولة عن بناء إنسان، ومن ثم جيل سليم سلوكياً ونفسياً من خلال تجرّده من النمطية والأحكام وقوقعة العادات والقيود وصندوق الأفكار التقليدية التي يعيشها المجتمع باتباعه لعقلية القطيع…

ولكن قد نتساءل: ما المقصود بعقلية القطيع؟

عقلية القطيع أو تفكير القطيع هو مصطلح يطلق على سلوك الأشخاص في الجماعة عندما يقومون بالتصرف بسلوك الجماعة التي ينتمون لها دون تفكير أو تخطيط، ودون التأكّد من صحة ما يتبعونه، متجاهلين بذلك حقيقتهم وتفرّدهم ككيان مستقل له حرية التفكير وإبداء الآراء. وبهذا، تنعدم شخصية الفرد ويصبح تابعاً فقط لا أكثر. الأمر الذي يخلق مجتمعاً غير متقدم يدور أفراده ضمن حلقة مغلقة لا فكرة جديدة تنهض به ولا إبداع يطوّره ويُحلّق به لطرق نجاح جديدة تجعل كل فرد مقتنعاً بما ينجزه، مثلما يكون واثقاً بنفسه وأفكاره.

نلاحظ أنّ الفرد الذي يسمح لاختلافه وحقيقته بالظهور والتميّز، يسعى ليكون هو ويتعمّق بذاته، فيحصد الكثير من الوفرة في حياته، وسيكون مؤثّراً في حياة من حوله بعيداً عن أي زيف أو أحكام مُسبقة. لأن التعمّق بالذات سيغني قدرة الشخص على التعبير والعطاء والعمل، دون أن يبقى أسير تعلّق نمطي وأفكار ومشاعر سلبية، بحيث يسعى لاستبدالها بكل ما هو إيجابي وحقيقي وداعم، وهنا يصبح إنساناً مستقلاً فكرياً.

فالفكر المستقل سيرتقي بك إلى نوع جديد من تحديات الحياة التي تتعالى عن وعي القطيع، فتحديات القطيع هي تحديات شخصية وتقليدية لا تتعدى الحاجة إلى التخلّص من القلق المستمر والفوضى والروتين القاتل والتوتر، أي تحديات البقاء فقط كما هو الحال في الغابات تتصارع فيها الحيوانات بهدف البقاء ومن يموت هو الأضعف والأحق بالموت بحسب قوانين الجماعة.

ولعلّ أول ما يواجه الفرد عندما يقرر مغادرة القطيع، هو أن يصبح منبوذاً، أو ينعتوه بالجنون وهذا حال الأغلبية، لأن مَن يطير خارج السرب يكون ضائعاً وأحمق بنظر قطيع الجماعة.

وعندئذٍ إمّا أن يسمح الفرد للشكوك بأن تغتال قدرته على التغيير، فيشعر بأنه واهم وعلى خطأ، وبالتالي تنجح هذه الشكوك بأن تقيده وتعيده إلى الوعي الزائف الذي يتبنّى فكرة أنّ قوته تستمد من قوة مجتمعه، مُتجاهلاً ومُتناسياً بأنّ قوته من ذاته ووعيه، ومن الخالق عزّ وجل.

وإمّا أن يسمح لنفسه أن يُحلّق ويسمو نحو أصالتها وجوهرها بعيداً عن التضليل والتقليد، مقترباً من إيصال رسالته التي يصبو إليها، ومن أولى خطوات التميّز والنجاح، مقتنعاً بأنّ قوته تكمن بإيمانه القوي بربه وبأنه خُلق ببصمات مختلفة ليخلق له مكانة مختلفة وأثراً مختلفاً في عالمه.

المغادرة ليست سهلة لمن عاش عمره تابعاً، لكنها ليست مستحيلة لمن قرر أن يعيش اليقظة بعد سبات طويل آملاً بحياة أفضل ووفرة روحية منبعها الله وحاضنها الكون.

وأخيراً أن تكون أنت يعني أن تصنع وعياً حقيقياً متفرّداً لك وحدك، يعني أن تجلب المستحيل وتقول: أنا أملكه بالفعل.

العدد 1105 - 01/5/2024