الأبُ.. الكفّة الثانية لميزان العائلةِ
نور سليمان:
رغمَ أنّ عيد الأب لا يحدِثُ ذلك الصّخب الذي يُحدثهُ عيد الأمّ، إلّا أنّهُ يحملُ الكثيرَ من الامتنان والحبّ والتّقدير لما يقدّمهُ لعائلتهِ وأبنائهِ، ففِي 21 حزيران(يونيو) تحتفل بعض دولِ العالمِ بعيد الأب أو يوم الأب، والفكرةُ هنا ليسَ أصل الاحتفالِ أو هدفه، بل الفكرة الحقيقيّة وجوهرها هو الاعترافُ بقيمةِ الأبِ الذي يُعتبرُ عمودُ المنزلِ وأمانه، فحياةُ الطّفلِ يمكنُ رؤيتها بوضوحٍ وتأريخهَا ما قبلَ وفاةِ الوالدِ وبعدَها، إذ يمكن للآباءِ التّأثير في محيطِهم ومحيط أسرهِم، وأن تكون وفاتَهم سبباً كبيراً للتّغيير الجذريّ في حياتِهم. وتختلفُ القصص حولَ أصل نشأة هذا اليوم في العصرِ الحديث، وتبقى أكثرُ القصص شهرةً في الولايات المتحدة الأمريكيّة هي مبادرةُ المعلّمة الشّابة (سونورا سمارت دود) التي أسّست العيد الوطنيّ الأمريكي الرسميّ للأب، على الرّغم من أنَّ خدمةَ عيد الأب أقيمت في 5 تموز (يوليو) 1908 في ولاية فرجينيا الغربيّة لتكريمِ الآباءِ الذين قُتلوا في كارثة منجم مونونجا. فقد نبعَت الفكرة عند سمارت أثناء استماعها إلى خطابٍ في الكنيسةِ حول عيد الأمّ، وفي ذلك الوقت شعرَت سونورا بقوّة أنّ الأبوّة بحاجةٍ إلى الاعترافِ بالجميل والشّكر، وخاصّة أنّها تكنُّ تقديراً عظيماً لوالدها (وليام جاكسون سمارت) المخضرم الأمريكي في الحرب الأهليّة، الذي توفيت زوجته ووهب نفسَه وحياتَه لتربيةِ أبنائِه السّتّة، ومع مرورِ الوقتِ أصبحَت فكرةُ عيد الأب شائعةً وتمّ تبنّيها في جميعِ أنحاء العالم. ولكن في سورية يختلفُ هذا الاحتفال وخاصّة أثناء الحرب وبعدها فقد عاثَت فساداً ودمّرت ما دمّرته، وأدّت إلى نزوحِ وتشريدِ ملايين السكان خارجها وداخلها، إضافةً إلى الأزمات الاقتصاديّة التي باتَت كالمقصّ يبترُ الأملَ واليدَ، فالوالدُ السّوريّ اليوم يمثّلُ صورةً عنوانها مشقّة الحياة، فالوضع المتدهور جعلَ الجميع يلتفتونَ إلى أعمالٍ إضافيّة؛ بهدفِ تأمينِ الأساسيّات الحياتيّة ومستلزماتِ أطفالهِم، برغمِ الصّعوبات والعوائِق التي تقفُ في طريق الجميعِ يوميّاً والقرارات المجحفة بحقّ المواطنِ السّوريّ، فكثيرٌ منهم لم يعودوا إلى منازلهم، فالبعضُ فقِدَ والآخر استُشهد ومنهم من يعاني من إصاباتٍ جسديّة تمنعهُ من العمل.
للأبِ دورٌ مهمٌّ في حياةِ طفلهِ، فهو المؤثّر الأوّل والدّاعم والأمان الذي يحتمي بهِ خلالَ مرحلةِ طفولتهِ ونشأتهِ، وخسارتهُ تعتبرُ وجعاً لا يستهانُ بهِ وقوّة في الوقت ذاته، فهناكَ أشخاصٌ قد فقدوا آباءهم في عمر صغير ممّا جعلهم يكبرونَ قبل أوانِهم ويتحمّلون الصّعاب ويواجهونَ قسوةَ الحياةِ دونَ سندٍ، فهو الدّاعم الأهمّ والأقوى في الحياة لأبنائِه، وهو الذي يعمل لأجلِهم وتحقيقِ رغباتهم، ولكن في ظلّ السّعي للعملِ بأكثر من وظيفة باتَ الأب بعيداً عن أفرادِ عائلتهِ، وعن همومهِم وما يعانونه ويتعرّضون له في المدرسة أو الجامعة أو العمل حتّى، فالغياب المتكرّر نتيجة العمل لساعاتٍ طويلة انعكسَ على حياةِ الأبناء ونفسياتهم، فهم لا يقابلونه أو يتحدثون معه بشكل طبيعيّ وأحياناً لا يرونه لأيامٍ، كما أنّه لم يتمكّن أن يكونَ جزءاً من حياتهم ولحظاتهم اليوميّة ويعلّمهم أولى الخطوات في كلّ شيء وخاصّة إن كانوا أطفالاً صغاراً، فالفتاة بشكلٍ خاص تتأثرُ بأبيها فهو بالنّسبةِ لها الرّجل الأوّل في حياتها والأمان الذي يحتويها دائماً، وغيابهُ يشكّل فارقاً وشرخاً في علاقاتها وحالتها النّفسيّة وقد تبقى عقدةً ناقصةً تلازمُها طيلةَ حياتها، كما أنّه يبني الثّقة داخلها والقوّة في شخصيّتها. الأبُ وجودهُ مهمّ فهو الكفّة الأخرى لميزانِ العائلة، وله دورٌ كبيرٌ في البناءِ السليم والصحيح لحياة الفرد النفسية والعقلية والجسدية، ولربما لا تكفي كلماتُ الشكر لجميعِ الآباء الذي يعملون ليلاً نهاراً لتأمين متطلبات أفرادِ عائلتهم، رغم الصّعوبات والأعمال الشاقّة التي من الممكنِ أن يعمل بها لأجلهم.