في مديح البرد

حسين خليفة:

في الحكاية القديمة والمعروفة للجميع، يخلع الملك ثيابه كلّها، بخديعة ماكرة من خياط مُدّعٍ أفّاق يوهمه أنه خيّط له ثوباً جديداً لا يراه سوى الأذكياء، ثم يوهمه أن يلبسه إياه ويعرضه للجماهير الغفورة التي تعيد ما يمارسه رجال الملك وحاشيته من إطلاق آهات الإعجاب والدهشة بجمال الثوب، حتى يفسد عليهم طفل حفلة النفاق العميم هذه ويصرخ: الملك عارٍ، إنه عارٍ…

تتعرض البلاد والمنطقة هذه الأيام لمنخفضات جوية قاسية، ثلوج تغطي معظم الجغرافيا السورية على الأقل، فيما لم يترك لنا أولياء أمورنا أي وسيلة تدفئة، وعدوا الناس بخمسين لتراً وهي لا تكفي لعشرة أيام عجاف كهذه، ومع قلّتها وعقمها لم تصل إلى جميع العائلات التي تملك بطاقة ذكية رغم مُضيّ شهرين من فصل الشتاء، فخرجوا بتصريحات جديدة تقول إنهم سيبدؤون بتوزيع وجبة ثانية من خمسين لتراً أخرى ومن لم يحصل على مخصّصاته في الوجبة الأولى وعدوه بمنحه الوجبتين أي مئة لتر بالتمام والكمال!!

فيما يستطيع أي مواطن الحصول على الكمية التي يريدها من المازوت بسعر 3000 ليرة للتر وأحياناً 3500 (السعر الرسمي 500 ليرة)، وبهذا يصبح سعر صفيحة المازوت بنصف راتب موظف من الفئة الأولى وصل إلى سقف الراتب. أي أنّ ما يقوله أولياء الأمر عن أنّ سبب الأزمة هو الحصار وعدم السماح للبواخر هو (تغطية للسموات بالأبوات) على قول المثل الشامي.

وحتى يثبتوا أنهم لم يكونوا صادقين معنا يوماً أعلنوا إن المواطن البردان يستطيع أن يشتري بموجب البطاقة الذكية ذاتها كميات إضافية من المازوت بسعر الكلفة كما يقولون، وهو 1700 ليرة للتر، من محطّات معينة قاموا بنشرها على مواقعهم، ولسان حالهم يقول: لنُنظّم سوقنا السوداء التي نجني ثمارها من جيب المواطن بدل تجار السوق السوداء ما دام الناس يشترون وسيشترون تحت ضغط المنخفضات المتلاحقة.

طبعاً، ولان الناس لا يثقون بوعودهم وتصريحاتهم من خلال الخبرة الطويلة معهم، فقد بقيت السوق السوداء (الحرة) ناشطة على قدم وساق، وبقي الناس القادرون يشترون المازوت بالسعر الحر، وبقيت المحطّات وأصحاب الصهاريج والمسؤولون الحكوميون يبيعونهم الوعود فحسب، فيما هم يريدون مازوتاً لا غير.

أولياء أمورناواثقون بأن الشعب السوري لن يموت جوعا أو برداً، وقد قالتها بثقة سيدة مسؤولة فيما كانت وكالات الأنباء في اليوم ذاته تنقل خبر وفيات من الأطفال السوريين في مخيمات الشمال، ثم لم يسألها أحد لماذا هذا الكلام الاستفزازي للناس التي تموت من البرد؟! وقد سبق لها أن أطلقت عبارة أن الناس صامدة رغماً عنها فلا خيار آخر أمامها.

الأمر ذاته ينسحب على قرارات الخبز والغاز والبنزين وغيرها من المواد الأساسية للعيش فقط، وليس للحياة، فالوزير المغرم بالشاورما، وقد ذكرها ثلاثاً في لقاء تلفزيوني له في معرض مقارنته أسعار بعض السلع لا يعدم وسيلة لإحصاء أنفاس الناس وتقنينها بموجب بطاقته الذكية، وهو من قال إن رسوم التسجيل في الجامعة الآن 2000 ليرة وهو أقل من ثمن سندويشة شاورما!!

نعود الى قصتنا والملك العاري والناس الذين كانوا يصفرون إعجاباً وافتتاناً بجمال ثوبه الافتراضي، فالناس عندنا يا سادتي يعضون على جوعهم وبردهم هم وأطفالهم، ويبدون الإعجاب والدهشة بما تلبسونه من ثياب ملونة للموت الذي تقدمونه للسوريين، وهم ليسوا معتوهين ولا مجانين، وليسوا عمياناً طبعاً، لكنهم يطبقون المثل السوري المعروف أيضاً: (اربط الحمار مطرح ما بيريد صاحبو!). ويضحكون عليكم في دواخلهم وفي مجالسهم المغلقة، وأنتم تعرفون جيداً حجم النكت والطرائف التي يتداولونها عنكم، لأنكم من عشّاق وسائل التواصل الاجتماعي، وربما لذلك تعدلون الآن قانون الجرائم الإلكترونية حتى تتقصّوا ذلك الطفل الخائف الذي يقول من خلف شاشة موبايل: الملك عارٍ، إنه عارٍ!

حتى هذه لا تريدون سماعها، لأن الفرق بينكم وبين ملك الحكاية أنّ الملك صدّق كذبة الخياط بأنه يلبسه ثوباً سحرياً، فأمر باستعراضه أمام الناس، أما أنتم فتعرفون جيداً حجم عريّكم وإفلاسكم ولفكم ودورانكم، ولا تريدون للأطفال، أو لمن تبقى منهم، أن يعلنوا حقيقتكم، لذلك ربما تشيحون أنظاركم عن موت أطفالنا برداً وجوعاً.

العدد 1104 - 24/4/2024