إسناد المناصب والفعل المؤسساتي الغائب.. هل من إدارات بلا شوائب؟! 

سليمان أمين:

يكاد لا مسؤول يأتي إلا ومسؤول آخر يذهب، أو العكس.. أما ما بين المسؤوليْن فتزكية مشتركة في البداية، وحجز احتياطي على الأموال، المنقولة وغير المنقولة، في النهاية.. ولا نعرف ما إن كانت هناك أنواع أخرى من الأموال، تعي (المالية) أهميتها، مثل الأموال المودعة في حجارة البناء، وفي طقوم ألماس وذهب ومجوهرات حرم السيد المسؤول، ثم في حقائب المنزل الأول أو الثاني، أو فيلا الصيفي، أو أرض في جبل ما أو تلّة شهيرة أو في ضاحية من الضواحي، أو مطعم في سلسلة مطاعم، أو حتى أكشاك على أبواب الجامعات.

 

معايير سائدة لإسناد المناصب!

لا شك أن ما نسمع عنه في الكثير من دول العالم حول عمليات إسناد المناصب، من معايير علمية وإدارية وفنية وتقنية، وشروط شخصية وأخلاقية، وأخرى تتعلق بالتحصيل العلمي العالي والخبرة والموهبة القيادية والريادية، إنما سنبقى ما حيينا نسمع عنه ولا نراه في بلادنا.. فالأسباب التي تؤدي إلى إسناد المناصب للأشخاص في كثير من الأحيان، هي نفسها التي تؤدي إلى عزلهم منها، ومنها –أي الأسباب- أن إسناد المنصب إنما يعود أحياناً إلى تزكية (هدية) يكافئ بها شخصٌ شخصاً لحسن العلاقة بين الاثنين، أو لرغبة شخص في تقاسم مزايا وامتيازات منصب يُسند إلى شخص يعرفه، أو تربطه به علاقة قرابة أو تقارب عائلي أو قبلي أو عشائري، وفي بعض الحالات يزكّي شخص متنفذ طويل اليد، شخصاً لمنصبٍ، يراه المناسب الوحيد له، نظراً لما يلمس فيه من سرعة استجابة وحسن استماع وانعدام في المناقشة أو السؤال أو الرفض أو التردد، أي تماماً بما ينطبق على العبارة السحرية (شبّيك لبّيك…). أما في حالات أخرى، فنرى عمليات تزكية إسناد مناصب لأشخاص ينفّذون سياسات أشخاص أعلى بكامل الكتمان والسرية والعنجهية، ودون تحريك ساكنٍ من ضميرٍ أو خجل أو مسؤولية، وحسب نماذج أخرى مألوفة، منسوجة على المنوال اللبناني، نرى تزكيات إسناد مناصب لأشخاص يُزعم أنهم يمثلون مناطق بأكملها، لكنهم لا يمثلون في تلك المناطق إلا أنفسهم.

إذاً في المحصلة فالفوائد في هذه الحالات شخصية، تنعدم فيها المصلحة العامة.. ولكن يقع محظور أو كشف مستور أو انتهاء لدور مأثور في حالات ما، ويخرج من أُسند إليه المنصب من منصبه بكل بساطة، ما دام (ما أوله شرط آخره سلامة)، ولو عانى المعزول يوماً أو يومين من مواجهة الناس، وإجراءات (المالية) وغيرها، ذلك أنه على اطلاع على كل ذلك قبل الاستلام، ومطمئن إليه بعد التسليم.. لذا نرى المنصب خلال سريان مفعوله كجبل جليد جميل متقن الصنعة الإلهية، والصورة البهية، وخلال فقدانه، نرى هذا الجبل ينهار بلحظة واحدة –وكأنه كان يذوب قطعة قطعة- فتظهر معه كتل الجليد المختلطة بكتل الطين،  ويغوص جميعها في بحيرة. أما المشهد الثاني فينهار فيه المنصب كالأبنية الشاهقة التي تتخلص منها الدول المتقدمة بالديناميت المدروس، فلا تترك في المكان أثراً كبيراً، سوى بعض الغبار الذي يشبه غبار جولة ميدانية على بدلة مسؤول ما، ينفضه عنها بسهولة قبل صعوده إلى سيارته في نهاية الجولة.

 

فاشل ويعيد!

يُزكّى أشخاصٌ أحياناً، مرة أخرى إلى مناصب فشلوا فيها في وقت سابق، لينالوا شرف الإسناد الجديد في وقت يُزعَم فيه أن الفشل السابق قد يتحول إلى نجاح، أو ربما –حسب تفسير بعض المتشددين في فلسفة المناصب- لأن الفشل السابق بات مطلوباً للمرحلة! فما تزكم رائحته الأنوف من ملفات في وقت ما، قد ينعش قلوباً ما في وقت آخر. لذا يستعاد المسؤول المعزول إلى كرسيه السابق، وكأنه نسي حقيبته الشخصية في المكتب لا أكثر، فيعود مرفوع الرأس محملقاً -بفتحة عينين أوسع- في وجوه كل من كان يعرفهم في المكان، ولا سيما أولئك المتّهمين بأسباب عزله السابق، وحاملاً لعصا (بلطجيّ) وكأنها صولجان بطريرك أو ملك آشوري قديم، يلوّح بها بجرأة في وجه كل من قد يقول لماذا عاد، وماذا فعل لكي يعود، أو بالأحرى، ما الذي حدث لكي يعود! لكن من زكّى الفاشل العائد مرتين للمنصب، قد لا يخطر على باله أن أسباب الفشل ستتضاعف بحكم التحدي والكيد اللذين يكتسبهما هذا الفاشل، بسبب ما يعتقده من أنه تلقى صدمة كبيرة نتيجة عزله السابق، وأنه يستحق رد اعتبار وتعويضات (عطل وضرر) بسبب إخلاء المنصب، فيتصرف بكيدية لا مثيل لها، وديكتاتورية لا رادّ لها إلا الصرخات التي ستعلو هنا وهناك من جديد، والخسائر الفادحة التي ستتكبّدها المصلحة العامة، بسبب العودة غير المدروسة للمسؤول الفاشل، وهو تلقائياً ونفسياً، سيستعيد إلى منظومة فشله السابق أمثاله من الفاشلين الذي استعان بهم وجعلهم ستائر مخمل وأغطية قصدير على مخالفاته، وكل ذلك سيكون على حساب الناجحين، المتأرجحين بألم في معمعة القرارات وطيّها، ثم فردها من جديد على حساب المصلحة العامة.

 

هل غادر الشعراء؟!

ولعل أكثر ما بات يُغضب الرأي العام –إلى درجة نفاذ الغضب وتحوّله إلى يأس محيق- هو إسناد المناصب لمن لا يستحقونها علمياً وإدارياً، ولا يستوعبونها شخصياً وأخلاقياً. أما إذا اجتمعت في هؤلاء كل المعايير السائدة لإسناد المناصب، سابقة الذكر، فالخشية كل الخشية على البلاد وليس على المصلحة العامة فحسب، فالبلاد الآن تتأهب لخوض عقد من السنوات، أهم أولوياته إعادة البناء والبناء المتجدد، بل وإعادة بناء النفوس بحرص أكبر من ذي قبل، فكيف يستقيم –على سبيل المثال- تجديد عقد الثقة الحكومية بمن فقدها ذات سنة، وعُزل من منصبه، ليعود إليه الآن، ويستلّ في أحد أهم مؤسسات منصبه، إحدى الأوراق المخالفة، حسب ملفات السلطة الرقابية والسلطة الرابعة وسلطة العلم والشهادات، ويلمّعها أمام الحكومة ويعيّن صاحبها مديراً عاماً؟ بالتأكيد لم يعد أحد يعترض على لفلفة الملفات الرقابية، لأنها عملية باتت من البديهيات والمسلمات في العمل الرقابي التفتيشي، كما لم تعد تنبيهات السلطة الرابعة ذات شأن عند من يُفترض أن تثير انتباههم، حتى إلى حد الفزع مما جرى ويجري في بعض أنحاء القطاع العام، ولكن ألا يضع المراقبون ألف سؤال وسؤال على تعيين مسؤول جديد في مؤسسة ذات طابع علمي بحت، لا يملك شهادة عليا لأنه أخفق في الحصول عليها عدة سنوات متتالية؟! فكيف لمن لم ينجح على مقاعد الدراسة أن يقود مؤسسة علمية كبرى؟ وكيف له أن يسير في دروب المصلحة العامة ضمن مؤسسة يختلط فيها الجانب العلمي بالجانب الإداري؟! ألا يحتمل في هذه الحالة الوقوع في مطب الإدارة بالنيابة؟!

وبالطبع فليس الإخفاق بحد ذاته عيباً، بل العيب هو في أن يوضع هذا الإخفاق بمواجهة الناجحين، وأن يلجأ صاحبه –بحكم إعجابه بالمنصب وحرصه عليه- إلى تهميش أترابه.

أما إذا كانت جهات أخرى قد ارتأت في المدير المذكور شخصاً إدارياً، فليكن ذلك، إذ لا حول ولا قوة لأحد في مناقشة قرارات الحكومة، المحصّنة بسلاح الافتراء القضائي، على أن يقوم هذا المدير بدور الموفّق الإداري والوظيفي لعمل المختصين، لا أن يدمج العوز العلمي بسوء الإدارة.

 

كلمة لا بد منها

لقد حان وقت الصراحة المتبادلة بين الشعب والحكومة، فمسؤولية إدارة مؤسسات الدولة هي مسؤولية عظمى، في الوقت الذي لم يعد فيه هناك وقت لتجريب أشخاص في مواقع المسؤوليات أو مكافأتهم بها أو تضييع وقت الدولة ومجهودها بهم، وكما يعرف مسؤولو تزكية الفاشلين لشغل المسؤوليات، أولئك الفاشلين وبماذا فشلوا ولماذا، فإنهم أيضاً يعرفون الناجحين وبماذا نجحوا ولماذا. فالأمور ليست خبط عشواء أو ضربة حظ أو مندل، وإلا لأصابت تزكيات طائشة ناجحين في البلاد، وتعدّل معها ميزان المصلحة العامة، إلا أن كفة الفاشلين المسيئين –ومع الأسف الشديد- ما زالت راجحة، لولا بعض الاستثناءات على المبدأ العامّي (إذا خليت خربت)، إلا أنه مبدأ لا يصحّ الاستنجاد به خلال الأداء المؤسساتي في الدولة.

العدد 1104 - 24/4/2024