بين الهدر والفقر والتنمية.. السوريون عالقون!
إيمان أحمد ونوس:
لا شكّ أن التزايد المتسارع لعدد سكان الأرض مترافقاً مع العديد من الأزمات التي تواجه المجتمعات من حروب وكوارث طبيعية وبيئية، قد خلّف آثاره السلبية على حياة ملايين البشر وافتقارهم لأدنى مقومات العيش على هذا الكوكب الذي بدأت موارده تواجه خللاً غير مسبوق لأسباب تتعلّق باستنزاف جائر لتلك الموارد، مقابل إهدار أو إهمال ما هو موجود من طاقات أخرى يمكن الاستفادة منها كالرياح والشمس، إضافة إلى التعامل السلبي وغير المسؤول مع الواقع المناخي والبيئي من قبل الشركات العملاقة في الدول الصناعية الكبرى، رغم العديد من الاتفاقيات الدولية التي هدفت للحدِّ من التلوّث الذي أدّى إلى تخريب طبقة الأوزون، وبالتالي إلى إحداث تغيير مناخي عمل على خلخلة نظام الأرض سواء على مستوى المياه والتربة، أو على الصحة وغيرها من قضايا أساسية تتعلّق بالعدالة الاجتماعية والمساواة.
وانطلاقاً من هذا الواقع، بدأ الاهتمام العالمي بما يُسمّى (التنمية المُستدامة) التي تُعرَّف بأنها قدرة الدولة على زيادة الموارد المختلفة من موارد بشرية، اقتصادية، طبيعية واجتماعية، وتدعيمها بهدف تحقيق نتائج أعلى للإنتاج لتلبية الاحتياجات الأساسية لغالبية مواطنيها مثل المأوى، والطعام، والماء وذلك باستعمال الطاقات المُتجدّدة والمُستدامة كبديل عن الطاقة المعتمدة على الوقود الأحفوري. كما يشمل مفهوم التنمية هذا تنمية الفرد نفسه بنفسه، وتطوير قدراته المعرفية والثقافية والإنتاجية، وإثرائها بما يتناسب مع متطلبات الحياة المدنية الحديثة، وذلك بهدف التخلّص من الفقر، تدعيم الصحة الجيدة والرفاه، ادخار المياه النقية والصرف الصحي، تمكين الوصول إلى الطاقة بتكاليف معقولة ودون الإضرار بالبيئة، ودعم الصناعات من خلال تشييد بنية تحتية قوية، واحتضان الابتكار، وتمكين المساواة بين الجنسين إضافة إلى تأمين مستوى جيد من التعليم للجميع. كما تهدف الاستدامة البيئية إلى ضمان الاستخدام المُستدام أو المثالي للأراضي والغابات والطاقة والموارد المعدنية.
بالتأكيد إن موضوع التنمية المُستدامة موضوع كبير بقدر أهميته وضرورته، لكن لا يمكننا الإحاطة به كليّاً في هذه الفسحة الضيّقة، ذلك أن ما نود الحديث عنه هنا هو الحرب الجارية في سورية منذ أكثر من عشر سنوات وما خلّفته من آثار كارثية على مختلف المستويات سواء على المستوى الحكومي أو المجتمعي وحتى الفردي، بما يتطلّب وبإلحاح الالتفات أو اللجوء إلى ما تفرضه التنمية المُستدامة لمواجهة هذا الواقع المأساوي الفظيع الذي ينعكس في كل لحظة على حياة الناس واستمرارية الدولة بما هو مطلوب منها تجاه نفسها وتجاه مواطنيها في آنٍ معاً.
لقد أحدثت هذه الحرب وما تبعها من عقوبات دولية انهياراً شبه تام للبنية التحتية في كل مفاصل الحياة والقطاعات الإنتاجية الصناعية منها والزراعية والتجارية وحتى القطاعات الخدمية والتعليمية والصحية …الخ. وهذا بالتأكيد قد ترك آثاره الفظيعة على حياة الناس وأدائهم وفاعليتهم كبشر بحكم الفقر الذي استشرى حتى اغتال ما كان يُسمّى (الطبقة الوسطى) الحامل الأساسي لكل تنمية وتطور، مثلما ترك الدولة في حالة شبه عطالة عن تأدية وتقديم أدنى الخدمات والاحتياجات المطلوبة لاستمرار الحياة بأبسط أشكالها على مستوى الماء والكهرباء والغذاء والصحة وغيرها، حتى بات السوريون يعيشون حياة شبه بدائية لانعدام تلك الخدمات أو ندرتها في أفضل الأحوال. غير أنه ورغم فجاجة هذا الواقع وفظاعته، لم يُحرّك لدى المسؤولين أدنى التفاتة للتصدي له وللعقوبات المفروضة التي طالت نتائجها بالكامل الفئات المسحوقة والفقيرة فقط، وذلك بحكم السياسات الحكومية الارتجالية في غالب الأحيان، والمحابية للتجّار وأصحاب المصالح والنفوذ والفاسدين الذين تسيّدوا المشهد اليومي، بما قوّض كل إمكانية لإيجاد بدائل عن المستوردات التي طالتها العقوبات أو المفقود من طاقة تتطلبها الصناعة والزراعة والحياة البشرية، وقد تمّ تقييد ورفض العديد من الإبداعات والابتكارات التي عملت على إيجاد بدائل للطاقة تتيح الاستفادة من طاقات كالشمس والرياح التي تحفل بها سورية بحكم موقعها الجغرافي والمناخي. وكذلك إبداعات عملت على إيجاد بدائل لأساليب الزراعة القائمة بما تتطلبه من مستلزمات إنتاج عالية التكاليف، واستبدالها بأخرى أقلّ تكلفة في ظلّ ما تتمّتّع به سورية من مناخ مناسب لمختلف المزروعات المروية منها والبعلية. إضافة إلى ابتكارات أخرى سعت للاستغناء عن استيراد الكثير من الاحتياجات وحتى الآلات والمعدات الصناعية والزراعية وغيرها الكثير في مجالات أخرى كالتعليم والتدريب المهني وسواه.
كلنا يعلم أن هناك دولاً وبلداناً أخرى تعرّضت لحروب وكوارث طبيعية أتت على كل مظاهر الحياة، لكنها نهضت مُجدّداً وبأفضل ممّا كانت، بسبب الاعتماد على مبدأ ومفهوم التنمية المستدامة والتنمية البشرية التي لا شكّ في أنها الأساس لهذا النهوض والانطلاق نحو الحياة والحداثة، وبالتالي ليست سورية استثناءً لا يمكنها تجاوز واقعها الحالي، غير أن الفساد الذي قاد إلى تلك الحرب، هو ذاته الذي يُعرقل اليوم ويُعيق كل إمكانية للنهوض والاعتماد على الذات في إعادة الحياة الطبيعية لسورية وشعبها الذي دفع أثماناً باهظة من إنسانيته وكرامته ومقومات عيشه التي باتت اليوم في أدنى مستوياتها، بما لا يليق بهذا الشعب وصبره وصموده، ولا بسورية التي كانت يوماً منارة للحضارة الإنسانية في أرقى أشكالها وصورها.