ما من حاجة إلى عقود عمل!

د. أحمد ديركي:

مع تطور النضال الطبقي ونشوء النقابات العمالية والأحزاب العمالية وفرض حقوق العمال على السلطة السياسية وحليفتها الطبقة البرجوازية، استطاع هذا النضال المشترك ما بين النقابات والأحزاب العمالية أن يحقق الكثير من المكاسب، ومنها على سبيل المثال، لا الحصر، تحديد دوام العمل بـ8 ساعات عمل يومياً يتخللها فترة استراحة، إلغاء عمالة الأطفال، التأمين الصحي، تعويض نهاية الخدمة… وما إلى ذلك من مكاسب أخرى تساوي في أهميتها ما ذُكر.

وقد يكون أكثر ما تجسّد هذا تجسّده في ما يعرف بـ(عقد العمل)، الخاضع لقوانين العمل، وهو في جزء كبير منه فرضته النضالات العمالية على السلطة السياسية، وبشكل مختصر :عقد العمل هو عقد يُبرم ما بين العامل والموظف (بكسر الظاء) ليضمن كل طرف حقوقه في حال نشوب أي خلاف بين الطرفين. ما يعيدنا إلى المسائل الحقوقية وفي الوقت عينه إلى المسائل الاقتصادية التي من واجب السلطة السياسية أن تراقبها بكونها (الضامن) القانوني ولها سلطة تشريع القوانين وتطبيقها وفرضها.

فعلى سبيل المثال لا يجوز إبرام عقد عمل مع طفل، دون سن العمل القانوني، لأن هذا يخالف قانون العمل الذي وضعته السلطة، ولم تضعه السلطة، في البدء، محبةً بالأطفال، بل فُرض عليها من خلال النضال العمالي وأصبح هذا أحد مكاسب الطبقة العاملة وحقوقها. وإن حدث أن أُبرم عقد عمل مع طفل، دون سن العمل، فهو بحكم القانون عقد باطل لا قانوني ويحاكم الموظِّف على فعلته هذه.

هذا من الناحية القانونية، ومن الناحية الاقتصادية، في عقد العمل، فهو عقد يحدد فيه الأجر، طبعاً ضمن أمور أخرى كثيرة، ومن خلال تحديد مستوى الأجر تحدد قيمة الضريبة المناسبة التي تفرضها السلطة السياسية على الأجور وما يتبع هذا من أمور اقتصادية اخرى مثل الطبابة والتعويضات وغير ذلك.

أي أن عقد العمل يمثل التأكيد على الحقوق المكتسبة للعمال ويحميها من أي عملية احتيال قد يقوم بها الموظف، أو العامل، كما يحد، ولو بشكل جزئي، من مستويات الاستغلال للعمال من قبل الطبقة البرجوازية. وفي الوقت عينه يعكس صورة الدولة، وكأنها ذاك الحكم النزيه ما بين العمال ومستغليهم، إضافة إلى أنه يمثل بعض مستويات دخل الدولة على الصعيد الاقتصادية في مسألة الضرائب المفروضة على الأجور.

كان هذا الأمر هو السائد، ولكن ما هو سائد حالياً لا يتطابق مع هذا التوصيف. فالأنظمة السياسية وحليفتها الطبقة البرجوازية عملا على ضرب النقابات العمالية، فتحولت النقابات من نقابات عمالية تدافع عن العمال إلى نقابات متزلفة للسلطة السياسية وتدافع عن مصالح السلطة، لما اكتسبته هذه النقابات من امتيازات منحتها إياها السلطة، فبنت شبكة مصالح متبادلة ما بين السلطة والنقابات. نتيجة لشبكة المصالح بين الطرفين غابت النقابات العمالية، أو غُيبت، عن مهمتها الأساسية وهي الدفاع عن حقوق العمال، وتحولت إلى مجرد أجهزة فارغة المضمون العمالي مليئة بالمضمون السلطوي.

لم يكن هذا الأمر ليتحقق ما لم يكن يسير بشكل مواز مع تدجين الأحزاب العمالية أو ضربها. كذلك نجحت السلطة السياسية وحليفتها الطبقة البرجوازية بضرب الأحزاب السياسية العمالية أو تدجينها أو تهميشها، فاختفى تأثير هذه الأحزاب بين أفراد الطبقة العاملة وأصبحت كالنقابات العمالية المدجنة أو المهمشة.

مع إلغاء دور النقابات العمالية والأحزاب السياسية العمالية ألغي عقد العمل. وأصبح الموظِّف مطلق الصلاحية في تعامله مع العامل. يطرده حينما يشاء، يخفض أجره حينما يشاء، لا بدل نقل، لا ضمانات صحية، والف لا ولا… فتحول العقد من عقد يبرم بين طرفين شبه متعادلين بالقوة ومحمي بقوة القانون الذي ترعى تطبيقه السلطة السياسية، إلى عقد شفهي، كعقود ما قبل نشوء الدولة بالمفهوم الحديث، بين طرف قوي ألا وهو الموظِّف، وطرف ضعيف يمثله العامل.

وما أكثر العقود أو أشباه العقود المبرمة على هذه الشاكلة بوطرق لا قانونية ولكنها محمية بقوة القانون! منها على سبيل المثال، أيضاً لا الحصر، العقود التي تجدد كل 6 أشهر أو 3 أشهر أو فترة زمنية قصيرة، والتي من خلالها يفقد العامل من خلالها كل تعويضات نهاية الخدمة! فكيف الحال بالعقود الشفاهية! في ظل هذا الواقع ما من حاجة إلى عقود عمل، ما يؤدي إلى نتيجة مفادها ما من حاجة إلى قانون عمل! وإن وجدت حاجة فهي حاجة شكلية لا حاجة جوهرية!

وهنا يطرح السؤال التالي: كيف للطبقة العاملة أن تثق بالنقابات العمالية والأحزاب السياسية العمالية الغافلة عن كل هذا الواقع الأليم إلا في بياناتها التي تسطرها بين فترة وفترة وتنادي فيها بحقوق العمال؟!

العدد 1104 - 24/4/2024