القانون رقم ١٨ لعام ٢٠٢١.. الثقة أولاً

صفوان داؤد:

ساهمت الصناعة السورية بحوالي 30 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي لسورية بين عامي 2007 و2012، مُشغّلةً حوالي 40 بالمئة من اليد العاملة السورية. وقُدّر عدد الصناعيين في تلك الفترة بنحو 6000 صناعي. لكن مع اندلاع الحرب انقلب المشهد كلياً، إذ انخفضت الصادرات من 8 مليارات دولار عام 2010 إلى 500 مليون دولار فقط العام الماضي، فيما ارتفعت البطالة من 15 إلى نحو 60 بالمئة (إحصاءات رسمية). وفي سعي الحكومة السورية لوقف النزيف المستمر أصدرت، بناء على ما أقره مجلس الشعب في جلسته المنعقدة بتاريخ 19 نيسان 2021، قانون الاستثمار الجديد رقم 18، الذي يهدف بحسب وكالة الأنباء الرسمية إلى (إيجاد بيئة استثمارية تنافسية وجذب رؤوس الأموال، وتوسيع قاعدة الإنتاج وزيادة فرص العمل ورفع معدلات النمو الاقتصادي بما ينعكس إيجاباً على زيادة الدخل القومي). وتضمّن القانون في بنده السادس إحداث (المجلس الأعلى للاستثمار)، وفي الثامن منه إحداث هيئة عامة ذات طابع إداري تسمى (هيئة الاستثمار السورية). وصرّح وزير الاقتصاد عقب صدور القرار أن القانون الجديد تضمن أولوية القطاع الزراعي ثم التصديري عبر إعفاء كامل بنسبة 100% من ضريبة الدخل، ومن الرسوم الجمركية على أدوات الإنتاج. ووصل السيد الوزير في تفاؤله الاحتفالي إلى أن هذا القانون سيعمل على تغيير ذهنية الطبقة المنتجة بأن تكون المنتجات السورية تصديرية بامتياز، بالتالي تحقق مصلحة للعاملين سواء كانوا من المنتجين الزراعيين أو الصناعيين. كما شمل القانون قطاع السياحة على إعفاءات من ضريبة الأرباح بنسبة 75 في المئة لمدة عشر سنوات، وإعفاءات من جميع الرسوم الجمركية والمالية على مشاريع المجمعات السياحية والفنادق ومشاريع الخدمات السياحية.

وحول ضمانات الاستثمار في القانون الجديد نصت المادة الخامسة منه على عدم جواز إلقاء الحجز الاحتياطي على المشروع أو فرض الحراسة عليه إلا بموجب قرار قضائي (البند آ)، وعدم نزع ملكية المشروع إلا للمنفعة العامة وبتعويض يعادل القيمة الحقيقية للمشروع، وفقاً للسعر الرائج بتاريخ الاستملاك. ويُسمح للمستثمر بإعادة تحويل مبلغ التعويض الناجم عن المال الخارجي الذي أدخله بغرض تمويل الاستثمار إلى خارج البلاد بعملة قابلة للتحويل (البند ب)، إضافة إلى ثلاثة بنود أخرى تتعلق بعدم إخضاع المشروع لأي أعباء مالية جديدة وعدم إلغاء إجازة الاستثمار إلا وفق شروط محددة. ويحق للمستثمرين وفقاً للقانون الجديد (تملك واستئجار الأراضي والعقارات اللازمة لإقامة المشروع وفتح الحسابات المصرفية لمصلحة مشروعه بالليرة السورية والقطع الأجنبي والحق بتحويل الأرباح والفوائد السنوية وحصيلة التصرف بحصته من المشروع إلى خارج سورية).

لم يأت القانون 18 لعام 2021 منعزلاً، فهو صدر ضمن سياق مجموعة من القوانين السابقة بدءاً من قانون الاستثمار رقم 10 لعام 1991، القانون رقم 7 لعام 2000، ثم المرسومان رقم 8 ورقم 9 لعام 2007. غير أن أكثر ما يميز القانون الجديد هو الإقرار الواضح والصريح بالإعفاءات الضريبية والجمركية على المشاريع ولم يتركها لتقديرات المديرين العامين؛ الثقب الأسود للفساد في سورية. ويميّزه أيضاً ضمانات قانونية بعدم مصادرة المشاريع المُستثمرة إلا بقرار قضائي وبموجب تعويض، وذلك لتهدئة المخاوف من احتمالية تعرض هذه المنشآت للخطر من قبل مجموعات ذات نفوذ وفوق القانون لا تستطيع السلطات المدنية الاقتراب منها. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو هل فعلاً إصدار القوانين كافٍ لتنشيط الاستثمار ودخول رأس المال الأجنبي، وحتى تغيير العقلية أو النهج الاستثماري للحاضنات المنتجة على ما وصل إليه تفاؤل وزير الاقتصاد!؟

أصبح من المعروف أنه خلال الحرب انسحب قسم لا يستهان به من الصناعيين الكبار من سورية، وأسسوا تجمعات اقتصادية نافذة وقوية في تركيا مثل (جمعية رجال ورواد الأعمال السوريين) قُدر مجموع استثماراتها بنحو 1،5 مليار دولار، وفي مصر (جمعية المستثمرين السوريين) في مصر، يقودها عمالقة الصناعة السورية مثل مجموعة صباغ للنسيج ومدار للألمنيوم وقطونيل للغزل. وأيضاً في الخليج العربي خاصة في السعودية والإمارات، من أهمها شركة لي (LEE) وسيساكو للكيماويات وعزوز للألمنيوم.

وناقش عددٌ من الصناعيين الكبار في لقاءات صحفية وتلفزيونية أسباب العزوف عن العودة إلى سورية، منها على سبيل المثال لا الحصر عدم وجود ضمانات خارجية، وعدم الثقة في الضمانات الداخلية للعودة بمشاريعهم واستثماراتهم. نشير هنا إلى أن القانون 18 الجديد ألغى إمكانية العودة لمحكمة الاستثمار العربية، أو أي محاكم أو جهات إقليمية أو دولية في حال النزاعات، وهذه الميزة القانونية كانت موجودة في قانون استثماري سابق، وتم الاستعاضة عنه بمركز تحكيم من اتحاد الغرف السورية للإشراف على النزاعات الاستثمارية. ويقول عدد من الصناعيين إن الإنتاج الصناعي يتطلب عوامل استقرار وشفافية عالية، وهذا يتعارض مع الإتاوات القانونية وغير القانونية التي تُفرض على المنتجات المصنوعة داخلياً، إضافة إلى الحرب الصامتة على المُنتج الصناعي المحلي من قبل حيتان الاستيراد، والغلبة لهم طبعاً مع سهولة استخدام الرِّشا وبيع الذمم داخل المؤسسات الحكومية. وما يزيد عدم إمكانية تدفق الاستثمار حضورُ عاملين موضوعيين آخرين هما العقوبات المفروضة على سورية، والشُّحّ المُزمن في موارد الطاقة؛ الكهرباء والفيول.

إن تشجيع الاستثمار لا يتحقق فقط عبر إصدار تشريعات وقوانين، إنه مروحة كاملة من الشروط، ولا يمكن لهذه الجملة من الشروط أن تتحقق دون وعي سياسي بأولوية الدولة على السلطة، وأولوية المؤسسات على الأشخاص النافذين. ونعتقد أن عودة المستثمرين دون ذلك لهو عَبَث وفانتازيا، خاصة عندما نستذكر البدهية في قوانين الإنتاج؛ أن عماد القطاع الصناعي هو في الأصول الثابتة والمعرفة العلمية، وليس في الأموال أو الودائع أو في التقرب الانتهازي من ذوي السلطة والنفوذ. بالتالي بقاء هذه الأصول ونموها يحتاج إلى عوامل استقرار طويلة المدى لا يتحقق سوى بالاستقرار والثقة بالنظام السياسي القائم.

العدد 1140 - 22/01/2025