صحافة بلا حرية.. حياة بلا هواء

إيناس ونوس:

يدخل الشباب والشابات إلى الجامعة_ قسم الصحافة وفي جعبتهم أحلامٌ ورديةٌ وآمالٌ هائلة بأنهم سيكونون حاملي لواء تغيير وتطور العمل الصحفي السائد شكلاً ومضموناً وأسلوباً، وبأنهم سيعملون كل ما بإمكانهم ليتلافوا كل الملاحظات التي يرونها في عمل غيرهم ممن عملوا أو يعملون في المجال ذاته، وخلال سني دراستهم يسعون للاطلاع على كل ما هو جديد في عالم الصحافة وفي أهم المؤسسات الصحفية في العالم أجمع، غير أنهم ما إن يحصلوا على شهاداتهم، ويدخلوا سوق العمل، ويبدؤوا بمحاولة تحقيق أحلامهم وتطبيق ما سبق أن درسوه، وما هي إلا تجربة أو اثنتان يعيشونها في عملهم حتى نراهم يتقهقرون ويشعرون بالخيبة والخذلان والانكسار، فكل ما تلقّوه في الجامعة ما هو إلا حبر على ورق، سواء من ناحية آليات العمل، أو من ناحية حرية العمل الصحفي وقدرته على الوصول إلى الحقيقة الأسمى والأصدق، وهنا نراهم باتوا يتعاملون مع عملهم كمهنة فقط من أجل كسب العيش لا غير، غير أنهم عموماً ينقسمون قسمين غير متساويين، القسم الأول يرفض كل التابوهات المخططة له والمفروضة عليه متجاوزاً الخطوط الحمر، وبالتالي سيعاني من محاولات التشهير والتهميش إن لم نقل الإقصاء، أما القسم الثاني فهو من يتنازل عن كل قناعاته مقابل الكسب سواء المادي أو الشخصي، فيعمل عبر التذلل لهذا أو ذاك انطلاقاً من مبدأ المثل الشعبي (تمسيح الجوخ). وللأسف فإن متبعي هذا الأسلوب كثر.

يخضع العمل الصحفي لمعايير وآليات لا يخضع لها أي عمل آخر، ولهذا فهو بحاجة ماسة إلى مساحة واسعة وكبيرة للحرية المهنية كي تؤتي ثمارها، وتعطي المتلقي الحقيقة التي يريدها، غير أن لهذا العمل أيضاً ارتباطات متشعبة ومتنوعة ما يقيد حريته تلك ويجعله تابعاً لجانب دون الآخر، ويدفعه لتزييف الحقائق أحياناً كثيرة من أجل إيصال وجهة نظر أصحاب القرار المرتبط بهم، إذ لا يوجد عمل صحفي في العالم غير مرتبط بجانب معين أو بسلطة معينة أو بوجهة نظر محددة، ما يؤدي إلى انعدام وجود صحافة حرة بالكامل، وهو ما يجعل الوصول إلى الحقيقة أمراً صعباً إلا من خلال إعمال العقل والمنطق وربط الخيوط بعضها ببعض، وهذا ما يقوم به قلة قليلة من الناس، لأنه من صلب عملهم، بينما يعيش غالبية المجتمع في التضليل وتغييب للحقائق التي يطلبونها.

إن العمل الصحفي بقدر ما هو عمل مجهد وشاقّ بل وخطر، لا سيما لمن يعمل به منطلقاً من قناعات ومبادئ معينة لا تتوازى مع تلك الخطوط الحمر، ولدينا من الأمثلة الكثير عن صحفيين وصحفيات تعرضوا لمخاطر وصلت حدّ التهديد بالقتل أحياناً، بقدر ما هو عمل يحمل من الإيجابيات الكثير أيضاً، فهو يساهم في إدراك مفاصل الحياة والواقع المعيش بشكل أكبر، كما أنه يساعد على إيصال رأي معين أو فكرة ما، كما ويسلط الضوء على مختلف مناحي الحياة، فيسهم بالتالي في تغيير قوانين هنا، وأفكار هناك، ولذا يجب على من يرغب بهذا العمل أن يحقق شروطاً خاصة، كسعة الاطلاع وامتلاك اللغة السليمة والأسلوب الذي يسمح له بالوصول إلى القراء بطريقة تشدهم وتقنعهم بما يطرحه، إضافة إلى امتلاك المنطق التحليلي في التعامل مع المعطيات التي يحصل عليها أو تقدم له، فنجاح هذا العمل يتطلب الجرأة والشجاعة في طرح العديد من القضايا ووجهات النظر، كما يتطلب الابتعاد عن شخصنته وعدم تحويله وسيلة للوصول إلى مصالح شخصية بحتة، لأنه سيتحول عندئذٍ إلى أداة جريمة بحق أخلاقيات المهنة من جهة وبحق المتلقي من جهة أخرى، ومن هنا تأتي ضرورة وأهمية حرية الصحافة والصحفيين، فإن ضاقت هذه المساحة غابت معها العديد من القضايا، واختفت الكثير من الحقائق، ولم يعد بإمكان الصحفي أن يخدم مهنته بالشكل المطلوب والصحيح، لأنها (أي مساحة الحرية) كالهواء، إن قلّ أو نقص انعدمت الحياة.

العدد 1104 - 24/4/2024