طيف من ورق

غزل حسين المصطفى:

هُنا..

حيث تخاف أن تستيقظ في صباح ما فتجد ملامح وجهك قد تسرّبت منك دون أن تدري، ستخرج وتجوب الشَّوارع بحثاً عن نفسك، قلبك، روحك، وتفاصيلك، وربما تتوه عن طريق العودة.

لم يكن وجهك وحده، فوجه البلاد عموماً قد خضع لعمليات ظنّوا أنها تجميليّة تواكب الحضارة، زخرفوها، زيّنوها، ولوّنوها بحسبهم، لكن.. هي البلاد قد فقدت هويتها.

قفزتُ في صباحٍ مكبّل التّاريخ، يُطاردني طيفٌ من ورق، يسألني بكلِّ حزمٍ عن وجوده، خوفي من قول الحقيقة أو مواجهتها جعلني أهيم على وجهي في الأزقة ألتمس له دليلاً حقيقياً أدحض به وسواسه وصوت دويّ الألم في صوته.

لكن..

ها هو ذا بائع الجرائد اليوميّة على درّاجته يقف بعيداً عن المشهد، بل بحثت عنه في دفاتر الصور العتيقة، لم أجد له إلاّ صوراً (بالأبيض والأسود).

قد أقصوا هذا الخال عن خدِّ دمشق..

ها هي ذي الجرائد المُكدّسة على المكاتب هنا، وعلى طاولات المقاهي، بين نظّارة شائبٍ وكفّه قد بدلوا دورها في العمل، من بطلة بدور رئيسي للمعلومة إلى (ضيف شرف). أمّا اليوم فقد اختاروا أبطالاً جُدداً إلكترونيين، وصارت هي طيَّ النسيان والذاكرة.

ها هنَّ النّسوة يتحسرنَّ بحرقة على ورق الجرائد والحزن يعتصرهنَّ من أجل حاجتهنَّ لها في استخداماتهنَّ المنزلية، بكل أسف، لا لشغفٍ دقَّ ناقوس الحزن.

ها هو مسمّى (صُحفي) يتلاشى شيئاً فشيئاً، تغيب ملامح الورق الذي تتقافز عليه الأفكار وشغف المهنة ووجع الشارع، وقلم الحبر الأزرق ودّع عرشه حين بُتر من محبرته.

ويتوّج على العرش مسمّى (إعلامي) بما يحمل معه من أشخاص تطفّلوا على المهنة وظنّوا أنَّها مجرّد ظهور وانتشار وشعبية، ظنّوا أنها استعراض للملابس وأماكن السفر والإقامة.. يا أسف جيلٍ ناضل لأجل الحق لا لأجل شهرة، لأجل جعل الجريدة مصدراً للتاريخ ومرآة للواقع والإنسان!

ها هو الصُّحفي المهني مُكمّمُ الفم، مكتوف الأيدي، عملوا على قلبه إلى روبوت آلي يعمل ضمن نطاق الأوامر المدرجة، لا صوتٌ للحق يهز وجدانه ولا صرخة استغاثة تؤجّج نار العزيمة فيه.

يتتبّع الأخبار الشائنة والمشكوك في أمرها لحصد أكبر نسبة ممكنة من الجمهور، كنّا نقول عن ذلك (صحافة صفراء) لكن، هي اليوم متبدّلة الجلد والألوان، حرباء تبثُّ السُّم.

ها هو مقالي الصحفي وزملائي ينادي دماءً حماسية تقرأ القضية بين سطورنا وتهبُّ بعزيمة وإصرار لغزل خيوط الشمس دروعاً، ولهيب النار سيفاً بتّار.

لكن ما من مجيب

إلى الطيف الذي رافقني في حديثي السابق آنفاً، اعذرني أن قد سفكت ماء وجهك حين نقلت الصورة الّتي جعلوك عليها اليوم. اعذر صراحتي، لكن حزني الواضح وصدقي قد يغفرا لي، أو ربما تشبثي بوجهك القديم أو ربما مبادئك على الأقل قد تجعلك تصفح عنّي.

إليك أيّها الطيف المقدّس.. لماذا أُخفي حقيقتك؟! يكفيك شرفاً أنك قد ربيّت جيلاً وحملت القضايا وسطّرت التاريخ.

أيّتها الجريدة.. ستبقى رايتك عالية، مشرّفة وإن ضلّ أبناؤك عن سبيلٍ رسمتِهِ أو أُضِلّوا عنوة، ستنجلي يد الدمار الخفيّة، وتُفك الأغلال عن الأفلام الصُحفيّة، وتعود الجريدة ورقيّة.

العدد 1104 - 24/4/2024