أن تكون شقيق غيفارا ليس أمراً هيناً!

عبد الرزاق دحنون:

 قُبيل ظهيرة أحد الأيام من شهر كانون الثاني (يناير) عام 1959 رنَّ جرس الهاتف في غرفة المعيشة في بيت في شارع آراوز في بوينس آيرس عاصمة الأرجنتين. فزَّت امرأة ملهوفة وقفزت من مكانها نحو الهاتف متمنية في سرها أن يكون هو:

ألو من المتَّصل؟

أجاب:

مرحباً أيتها العجوز، أنا إرنستو!  

 لم تكن أم تشي غيفارا قطّ امرأة بشوشة، ومع ذلك لم تقدر على كتم فرحتها بهذا الصوت القادم إليها من مسافة 6500 كيلو متر، من جزيرة قصب السكر في الكاريبي. أشرق وجهها فرحاً وأطلقت صرخة مدوية: (إنه إرنستيتو!). بدت سعيدة ومبتهجة. تلقّت أخباراً مفرحة. لقد أخبرها إرنستو تشي غيفارا بانتصار الجيش الثوري الكوبي ودخوله المظفَّر إلى العاصمة هافانا. أراد أن يسمع نبرة الحنان الأمومي التي حُرم منها لزمن طويل. تبادلا هو والمرأة العجوز حبّاً كبيراً واحتراماً شديداً. ولا سيما أنّها هي مَن بنتْ شخصية إرنستو. لقد كانت ناشطة سياسية ومعارضة قبله. وهي من أورثته حبّ القراءة والمطالعة، وهي من علّمته اللغة الفرنسية التي تُجيدها بطلاقة. كان يُقال إنَّ إرنستو هو طفلها المدلّل والمفضّل. كانت هذه الأفضلية التي تمنحها الأم تعود إلى حالة المرض التي كان إرنستو يعاني منها. مرض الربو ذلك الذي منعه من أن يتابع دراسته بشكل طبيعي، الأمر الذي أرغم الأم على أن تقوم هي بتدريسه في البيت إلى حين بلوغه التاسعة.

إنَّ التعامل مع تشي غيفارا كإنسان هو السبيل الوحيد الذي يمكننا من خلاله التحدّث عن فكره وفلسفته وعن وعيه بعيداً عن الأحكام المسبقة، وبخاصة بعيداً عن الصورة النمطية له كثائر التي يبدو أنّه يُحصر ويختزل فيها. لم تكن حرب العصابات بالنسبة إليه سوى وسيلة لبلوغ الحرية والتغيير والمساواة ونهاية استغلال الإنسان من قبل الإنسان. لقد وجد حلولاً لمشاكل تواجهنا في الوقت الراهن أكثر من أي وقت مضى. هناك ميل لنسيان أن تشي غيفارا كان بين عامي1959-1965 في مكانة ومهام رئيس دولة. كان يصول ويجول في العالم في زيارات رسمية ويلتقي زعماء دول ويستفيد من خبراتهم وتجاربهم لتطوير الاقتصاد الكوبي. لقد أصبح رئيساً للبنك الوطني واتبع دروساً في الرياضيات ليكون قادراً على إدارة هذا المطرح الذي وضع فيه. كان تشي غيفارا يأمل في أن يساهم في بناء مجتمع قائم على العدالة والمساواة لا على الربح بل على مبادئ إنسانية تحفظ للإنسان حريته وكرامته.

من فترة قصيرة اهتديت مصادفة إلى كتاب (أخي تشي) وهو ثمرة لقاء بين الصحفية الفرنسية أرميل فينسن وخوان مارتن غيفارا، وهي لم تكن تتصور قط أن يكون لدى تشي أخٌ. صدر الكتاب في طبعة فرنسية أنيقة عام 2016 وتُرجم إلى العربية وصدر في طبعة جميلة عن دار المركز الثقافي العربي في الدار البيضاء في المغرب العربي سنة 2017 بمناسبة الذكرى الخمسين لرحيل تشي غيفارا. نقرأ في فاتحة الكتاب:

انتظرتُ ستة وأربعين عاماً قبل ان أتمكن من القيام بزيارة المكان الذي أعدم فيه أخي إرنستو غيفارا. يعلم الجميع أنه قد قُتل بطريقة جبانة، فقد أُعدم رمياً بالرصاص في التاسع من شهر تشرين الأول (أكتوبر) من عام 1967 في قاعة بائسة من قاعات مدرسة طينية متهالكة في قرية لا هيغويرا النائية في جنوب بوليفيا. يُقال إنه قُتل بشرف محافظاً على وقاره، وأن آخر كلماته كانت: اهدؤوا وأحسنوا تسديد بنادقكم، فإنكم ستقتلون رجلاً. كان الجندي سيئ الحظ ماريو تيران سالازار، الذي أوكلت إليه المهمة القذرة، يرتجف. فاحتاج أن يحتسي الخمر لحدِّ الثمالة لكي يجد في نفسه الجرأة على الضغط على زناد سلاحه. مات أخي واقفاً بشموخ. أرادوا له أن يموت جالساً لإهانته وإذلاله. لكنه احتج رافضاً ذلك وكسب تلك المعركة الأخيرة. وكان إرنستو، من بين سجاياه العديدة، أو لنقل من بين مواهبه الكثيرة، يجيد فنَّ الاقناع.           

يُتابع شقيق تشي غيفارا فيقول:

لست مثقفاً ولا صحفياً، ولكنني شقيق تشي غيفارا، ولهذه الحقيقة البسيطة أثرها ودورها. حينما يعلم الناس من أكون، لا يصدقون ويشكون في أمري ويعاملونني كشخص دعيّ يختلق الحكايات. وينظرون إليَّ من قمة رأسي إلى أخمص قدميَّ. أكون لغزاً بالنسبة لهم. وما إن يتقبّلوا أنني ربما أقول الحقيقة، حتى يكون رد فعلهم الثاني هو البحث عن أوجه الشبه بين تشي وبيني. يُدققون النظر في عيني وفي أنفي وفي طول قامتي. أنا أقصر قامة من تشي. هناك بعض الشبه بيننا ولكنه لا يرتقي إلى مستوى أن يثير الانتباه لدى الناس. ومع ذلك، حدثت معي مفاجآت جميلة. 

مؤخراً، كنت أبحث عن كتاب حول أخي نفد من الأسواق. بعد جولات لا طائل منها في البحث عن الكتاب في مكتبات بوينس آيرس، عثرت عليه أخيراً على موقع إلكتروني لبيع الكتب المستعملة. أعطاني البائع موعداً في زاوية شارع من حي شعبي. لم يكن يعلم من أكون. كان قد جاء فقط لكي يبيع كتاباً لرجل مجهول. كان الرجل في الثلاثينيات من عمره. بدا عليه أنه رجل فقير للغاية. لدى وصوله إلى مكان الموعد، أعطاني الكتاب وبدأ مباشرة يبدي اعتذاره لكونه يتخلى عن هذا الكتاب. قال لي إنه كان يملك مجموعة كاملة من الأعمال حول تشي وأنه أحد المعجبين به وانه قرأ كل كتاباته تقريباً وأن عليَّ أنا أيضاً أن أفعل الشيء نفسه، واستفاض في الحديث. كان يتأسف لتخليه عن الكتاب لأنه أصبح مفلساً. أعطاني درساً رئيسياً ومرتجلاً حول تشي أمام باب متجر كان حارسه الذي يذرع المكان جيئة وذهاباً يراقبنا بعين مرتابة. في النهاية حين علم أنني الشقيق الأصغر لتشي غيفارا استغرب الأمر. ولكنه كان في غاية السعادة لكونه التقاني. لقد أسعدتُ نهاره.

كيف عرفت تشي؟

 تلعب المصادفة دوراً مهماً في حياتنا. ففي أحد الأيام سألتُ أخي طالب الصيدلة في جامعة دمشق عمَّن يكون هذا الذي في الصورة المعلّقة على جدار غرفته. فقال: تشي غيفارا، ألا تعرفه؟ نعم، لم أكن أعرفه، مما زاد في غُمُوض الصورة. كان الرجل وسيماً بلحية خفيفة يرفع يده اليمنى عالياً وكأنه يلوح بها مودعاً. تركت الصورة تأثيراً عميقاً في مُخيلتي، ثمَّ رحتُ أبحث عمَّا قصد أخي من تسمية الصورة تشي غيفارا. بعد برهة اكتشفتُ أنه من أشهر الشخصيات السياسية في القرن العشرين، قاد مع فيدل كاسترو ثورة مسلحة في جزيرة قصب السكر في الكاريبي.

 كان أخي قد قصَّ صورة تشي غيفارا من مجلة حصل عليها من أحد المراكز الثقافية الأجنبية في دمشق، وعلقها في جدار الغرفة إلى جانب صور كيم إيل سونغ وماو تسي تونغ وهو شي منه وفيدل كاسترو ولينين وتروتسكي وستالين وماركس وأنجلز. وقد تعرّفت إلى هذه الأسماء فيما بعد من قادم الأيام، ورحتُ أُعلقها، أنا الآخر، على جدار غرفتي، وزدتُ عليها صور أنجيلا ديفيس وريجيس دوبريه وباتريس لومومبا وسلفادور أليندي وعبد الفتاح إسماعيل وجورج حبش وغسان كنفاني وبابلو نيرودا وناظم حكمت والشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم وهادي العلوي البغدادي وعلي الشوك. ولكل صورة من هذه الصور حكاية تستحق سرد قصتها وتتبع الأثر الذي تركته في حياتي. 

هذه التشكيلة من الصور شكلت الأرضية التي حملت فيما بعد توجهي السياسي وقادتني إلى طرق ودروب بعضها كان معبداً سهل المسالك، وبعضها الآخر كان سالكاً بصعوبة. لقد لعبت صورة تشي غيفارا دوراً محورياً في حياتي، فاهتديت في تلك الأيام إلى كتاب طبع في دار النهضة بفرعيها في بيروت وبغداد كان قد صدر في بداية سبعينات القرن العشرين عن الثورة الكوبية، هو مذكرات أرنستو تشي غيفارا مترجمة عن الإسبانية. كان المترجم فطناً فصاغ الترجمة بلغة عربية فصيحة مشحونة بالحماس الثوري. وأنت تقرأ الكتاب كأنك تُشاهد فيلماً مصوراً عن هؤلاء الشباب الذين امتشقوا السلاح للدفاع عن الحرية والعدالة. وهذا ما دفع الفتيان من أمثالي للبحث عن الكتاب، فوجدت نسخة وحيدة منه مصادفة في مكتبة (وحيد قباني) في مدينتي في شارع شكري القوتلي قرب سينما الزهراء التي عرضت أول الأفلام عن الثورة الكوبية. حضرنا الفيلم وكنا ما نزال تلاميذ مدارس في المرحلة الابتدائية.

تلك الأيام كان العمل الفدائي في أول توهجه يملأ النفوس حبوراً. من كان يُصدق أن غريب ابن حارس حارتنا الليلي كان فدائياً يقتحم الليل في بعض الأوقات قادماً من ساحة المعارك مرتدياً بذَّة الفدائي المرقطة ملتحفاً بذلك الشماخ الفلسطيني المشهور المنقط بالأبيض والأسود. هل كان غريب فلسطينياً؟ أنا لا أعرف حتى اليوم لأننا في تلك الأيام لم نكن نسأل الشخص ما دينه أو طائفته أو ملّته أو بلده أو هل كان يُعلِّق على جدار غرفته صورة تشي غيفارا؟

العدد 1102 - 03/4/2024