الكفاءات الألماسية وإعادتها للوطن قضية أساسية

الدكتور سنان علي ديب:

 للكوادر البشرية المتميزة او ما تسمى الكفاءات دورٌ محوري وتأسيسي في علو البناء التنموي وقوّته وتميّزه واستمراريته وفق وتيرة الارتقاء، وقد عانينا من نزيف كبير لهذه الكفاءات فيما مضى بنسب متوسطة، ولكنه ازداد بعد الحرب الظالمة المركبة المعقدة، فالهجرة قبل الأزمة كبيرة ولكنها كانت تعوض بحجم الخريجين ومهاراتهم، ومع أنها خسارة ولكنها لم تترك فراغاً كبيراً مؤثراً، وبعد الأزمة تضاعفت أضعافاً مضاعفة.

وبالنسبة لمسببات هذه الهجرة فهي تختلف بين ما قبل الأزمة وما بعدها.

فحسب الإحصاءات لعام ٢٠٠٠ كان يوجد حوالي ٣٠٠٠ طبيب سوري من أصل ١٥٠٠٠ في الولايات المتحدة. وحوالي ١٨٠٠٠ طبيب في ألمانيا.

وبالمحصلة قدرت الخسائر بهجرة ثلث أطباء سورية، وخُمس عدد الصيادلة، علماً أن تكلفة الخريج الجامعي حوالي ٢٠ ألف دولار.

وأما بعد الأزمة فـ ٤٠ بالمئة ممن هاجروا بين عامي ٢٠١٣ و ٢٠١٦ يحملون شهادة ثانوية وما فوق.

وتسرب ٣٤ بالمئة من كوادر جامعة دمشق، و ٤٥% من كوادر جامعة حلب. و٨٥٠٠ مهندس و٢١٥٠٠ حامل شهادة جامعية.

وبمعزل عما تكلفت البلد لتنشئتهم وتعليمهم وتدريبهم، وبمعزل عن الفراغ المهني والتعليمي، فقد كانت التحويلات المالية تعد سابقاً مكسباً في ظل وجود بدائل، أما اليوم فأصبح هناك فراغ وقلة وتأثير سلبي لفقدانهم، بينما الكوادر السورية تغزو العالم وتبني تنميته وحضارته فهم سفراء بكل بلدان العالم. وبالنسبة للتحويلات فقد كانت قبل الأزمة تقدر بأكثر من مليارين ومئتي مليون دولار، ونسأل اليوم كم هي بعد الهجرة الضخمة؟ ونقول: مهما كبر حجم التحويلات يبقى الإنسان أهم بالنسبة للتنمية والتطور والارتقاء.

وقبل الأزمة كان الفساد والتعيين بلا معايير ولا حسب الكفاءة والنزاهة من طوارد الكفاءات، إضافة إلى قوة الجذب الغربي من مغريات وسبل رفاهية وتحضر وضعف الانتماء لعدد لا بأس به، ولكن خلال الأزمة تزايد الفساد والفوضى نتيجة الحرب المعقدة وضعف المنظومة الأخلاقية وترهل كبير وضعف المراقبة والمحاسبة فانعكس على التعيينات وظروف المناطق التي تهدمت واحتلت وتسهيلات الغرب، وتدني سوية الخدمات ومستوى المعيشة جعل هناك هجرة ضخمة تركت لدينا فراغاً كبيراً.

فقبل الأزمة الشهادة السورية أهم من أغلب الشهادات ومنها الغربية.. لتميز السوري حتى وهو طفل عن غيره، وهو ما جعل سرقة الطاقات والعقول السورية غاية وهدفاً للآخرين.

وبالمحصلة أهم ثروات سورية أهدرت وتسربت وتغربت، وهي أغلى من كل الموارد، ومهما بلغت التحويلات تبقى طاقاتها وإمكاناتها وحاجة البلد لها أثمن من الأموال والجواهر، ولذلك يجب العمل على إرجاعها وفق برنامج واضح وتسهيلات مختلفة تزيل العراقيل.

ومن الأسباب المجسدة لحجم فراغ هجرة الكفاءات: سياسات الاستيعاب،

فقبل الأزمة كنا بسياسة الاستيعاب لكل خريجي الثانوية وفق أعداد تفيض عن حاجاتنا التنموية ما خلق فوائض وجد الكثير منها في البلدان الأخرى مصدر عمل ومعيشة وتأسيس للعودة القادرة على الاستثمار القوي لكفاءتهم وخبراتهم، وبما يساهم مساهمة فعالة في النمو والتنمية، وبعد ما وصلنا إليه من تطور في أغلب المجالات انتظرنا أن نركز على تكريس جودة الخدمات بما يضاهي الغرب المتحضر وخاصة التعليم والصحة والسياحة، ولكن للأسف لم تنج من عيون القطاع الخاص لإقحامه في الاستثمار ولو لم يستطع التنافس، ومن أجل السعي للانطلاق نحو التميز بالجودة طالبنا بالتفرغ وخاصة بالتعليم والصحة، ولكن عبثاً وظلت الازدواجية واستمرار إضعاف إمكانات العام وخدماته.

كثر ممن أرسلتهم الحكومة للدراسة (تعليم عالي) لم يعودوا ويستكثرون دفع الغرامات والتكاليف، وجزء منهم تعالى ولا انتماء قبل الأزمة.

ولكن يجب دوماً ألا ننظر إلى الخلف ولا نستسلم لليأس، فيجب العمل على تمكين وتحصين الكفاءات عبر سياسات واضحة من التعيين والأجور والمكافآت.

وهنا نبارك موضوع التعيين والذي أخذ به مؤخراً عن طريق وزارة التنمية الإدارية ومركزية التعيين حالياً.

فكان التعيين يتم عبر المحسوبية والرشوة وإبعاد الكفاءات وخاصة بالجامعات، ومهما يكن فالمركزية تخفف من الفساد وتوصل كفاءات قادرة على التطوير والتحديث والتغيير الصحيح والإحاطة بتفشي الفساد الذي أصبح علنياً ووقحاً.

وكذلك من أجل الحفاظ على من بقي وجذب من هاجروا لا بد من خطاب وطني إعلامي مخفف للاحتقان الناجم عن سوء المعيشة والضغوطات التي يعاني منها الشعب، وعودة الثقة والوقوف مع البلد فيما يعاني من صعوبات ناجمة عن إرهاب اقتصادي مركب انعكس على حجم الموارد والإمكانات. والعمل على تسهيل عودة الكفاءات المهاجرة لأسباب لا إرادية. الكفاءات ثروة لا تفرط بها الدول وكثر من الدول بلا ثروات طبيعية تجاوزت الصعاب كاليابان بعد الحرب العالمية الأولى وألمانيا وماليزيا (التي كانت من قبل تتمنى أن تصل إلى مصاف سورية التنموية)، وسنغافورة.

تقوية فعالية المؤسسات كلها ضد سطوة المال وفرض قوة القانون على الجميع بالقوة.

والاعتماد على الكفاءات السورية التي أثبتت وطنيتها.

والابتعاد عن مبدأ مزمار الحي لا يطرب.

والإدارة الرشيدة لكل الموارد لتحسين مستوى المعيشة.

 للأسف كانت وستبقى أهم أهداف العالم الغربي المتعالي المتآمر سرقة الكفاءات والعقول وحرمان البلدان الأخرى منها، وقتل الطاقات الشابة لعرقلة النمو والتنمية والتطور واستمرار التبعية بكل أنواعها. وفي العقد الأخير زادت هذه الدول من سعيرها ونوعت من أدواتها بما فيها القتل إن فشلت المغريات.

وهذا ما يدل على أهمية هذه الكوادر وحجم الحاجة لها والفائدة من حمايتها وتثبيتها في بلدنا وإعادة ما تسرب منها.

العدد 1105 - 01/5/2024