كيف يسرقون المواطن؟
خالد الحريري:
من زمان، عندما كان الزبون يفاصل البائع، وكان هذا البائع يريد أن ينهي ذلك لمصلحته يقول: لا تتعب نفسك سعرها ثابت متل الباكيت! كناية عن ثبات سعر الدخان الوطني نموذجاً لثبات سعر السلع في سورية، لا يتغير إلا بقرار رسمي من الجهات المسؤولة عن ذلك، في ذلك الزمان لم يكن السائد هو اقتصاد السوق الليبرالي الحر، بل كانت الدولة هي المتحكمة بمستلزمات الإنتاج والاستيراد والتوزيع، ولم يكن فساد موظفي الدولة بهذا الاتساع، وكانت أجهزة الدولة الرقابية من تموين ومكافحة وجمارك قادرة على ضبط السوق وأسعار السلع بشكل عام، لكن اقتصاد السوق الليبرالي الحر أوجد مجموعة واسعة من السماسرة والوسطاء والوكلاء والمستوردين تولّوا دور الدولة السابق، بل نستطيع القول إن الدولة هي من تخلت عن دورها لهم، بإصدار مجموعة من القوانين والقرارات تُيسِّر لهم نشاطهم، بل وتشرعنه أحياناً، تاركة المجال الواسع لتحكّمهم بجزء مهم من آلية الاستيراد والتوزيع، مما أضاف على المنتجات المحلية والمستوردة قيمة مضافة تذهب إلى جيوب فئة من الطفيليين الذين ليس لهم علاقة بالعملية الإنتاجية، وطبعاً يتحمل دخل المواطن المتهالك أصلاً عبء هذه القيمة المضافة.
إن آلية السوق النيوليبرالي الحر أمّنت أرباحاً هائلة لهذه الطغمة من المتطفلين على الإنتاج، مما أدى إلى ارتفاع كبير لجميع أسعار السلع، وبالتالي تراجع القدرة الشرائية للّيرة السورية، وإلى زيادة معدل التضخم. لنأخذ مثالاً باكيت الحمراء الطويلة، وهو منتج وطني سوري، زراعة وتصنيعاً، كان سعره قبل الأزمة 30 ل. س، ونتيجة التضخم زاد 12 ضعفاً فأصبح 350 ل. س حالياً، وهذا سعره الرسمي، أي يخرج من المعمل بهذا السعر، فهل يصل إلى المواطن بهذا السعر؟ إن الفساد وآليات السوق النيوليبرالي المتحكمة في عملية التوزيع، توصله إلى المواطن عند الموزع الأخير الذي هو دكان أو بسطة بـ 900 ـ 1000 ل. س، وإذا تحركت أجهزة الرقابة (التموين مثلاً) فإنها تعاقب هذا الموزع الأخير الذي يحقق ربحاً لا يتجاوز الـ 50 ل. س، فأين يذهب الفرق؟ إنه يذهب إلى جيوب السماسرة والفاسدين في مؤسسة التبغ. إن آلية التوزيع في السوق النيوليبرالي الحر تسرق المواطن سرقة موصوفة، وهذا يشمل ليس فقط كل أنواع الدخان الوطني والأجنبي! بل كل أنواع السلع المنتجة وطنياً، ودور الدولة عبر ما يسمى مؤسسة حماية المستهلك هو عرض السلع بأقل حوالي % 15 من أسعارها في السوق، وبذلك تقدم فائدة محدودة. إن الحل الجذري لهذه المشكلة هو إلغاء دور الوسطاء الطفيليين تماماً، وهذا لا يتحقق إلا بعودة الدولة إلى دورها في السيطرة على التجارة الداخلية والخارجية والتوزيع المباشر للمواطنين عبر صالاتها، يجب أن تعود الدولة إلى تحمّل مسؤولياتها الكاملة في الاستيراد والتصدير والتوزيع، سواء للسلعة المستوردة أو للمنتج المحلي، ومهما كان حجم الفساد في هذه الحالة فسيكون أرحم من الفساد في آلية السوق الحر التي يسيطر فيها السماسرة الطفيليون على عملية التوزيع وتعجز الأجهزة الرقابية عن تأدية دورها.