نزيف الأدمغة السورية وتهجيرها.. هل نستعيدها ونستثمرها؟؟
سليمان أمين:
يتصاعد نزيف العقول الذي تشهده سورية وبعض دول المنطقة مع تزايد موجات اللجوء من المناطق التي شهدت صراعات مختلفة، وعدم الاستقرار السياسي المستمر خلال الأعوام العشرة الماضية، إضافة إلى تردي الواقع الاجتماعي والمعيشي ومنهج الحكومات في تهجير الطاقات الشبابية من خبرات وعقول بتهميشها الذي وفر ظروفاً طاردة للكفاءات، ويسَّر اجتذابها بآلاف المنح الدراسية وفرص العمل في الدول المتقدمة. إن هجرة هذه الكفاءات والخبرات البشرية تعتبر (نزف أدمغة) أو (هجرة أدمغة) للبلد المنشأ، و(كسب أدمغة) للبلد المستقطب. ولقد أثبتت هجرة الأدمغة أنها مسهّلة للتنمية والمنافسة في الدول المستقطبة، وعائق للتنمية المستدامة في دول المنشأ. لذلك فإن استمرار هذه الهجرة على وتيرتها التصاعدية، فإن دول المنشأ التي هي في معظمها دول نامية، لن تستطيع بلوغ أهدافها في تحقيق التنمية المستدامة أو المنافسة في الأسواق العالمية في السنوات المقبلة.
فقد تصدرت سورية خلال السنوات الماضية قائمة هجرة الكفاءات العلمية والخبرات التقنية المتنوعة، ومازالت هذه الكفاءات مستمرة حتى هذا اليوم في البحث عن أي وسيلة للهجرة سواء عن طريق المنح الدراسية أو الهجرة غير الشرعية وغيرها من الوسائل الكثيرة. وهجرة هذه الكفاءات الشبابية سوف يكون له آثاره السلبية على التنمية الاقتصادية والاجتماعية وتماسك النسيج الاجتماعي السوري في السنوات القادمة.
من خلال متابعتنا وتواصلنا مع كثيرين ممن يعيشون في بلاد المغترب، ممن تم استثمار طاقاتهم بالعمل، وعن الأسباب التي دفعتهم وتدفع اليوم الشباب السوري للهجرة وطلب اللجوء وغيره فقد استخلصنا التالي:
*صعوبة تحقيق الاستقرار السياسي والأمان في المجتمع، وخصوصاً في السنوات الأخيرة، فقد زاد الضغط الحكومي على الشباب السوري كثيراً حتى على مستوى الصحفيين، إذ جرى تقييدهم أكثر وفق أهواء بعض المسؤولين وقانون الجرائم الإلكترونية وغيره من الوسائل التي تحد من حرية الرأي والنقد الذي ساهم بارتقاء منظومة الفساد وأثريائها للدرجة العليا في المجتمع على حساب الكل.
*عدم وجود ديمقراطية حقيقية يتمتع بها العلماء والمثقفون وأصحاب الكفاءات العلمية والتقنية وغيرهم من ذوي الخبرات.
* لا يوجد تعيين للكفاءات بشكل عادل أو يمكن القول لا تعيين للكفاءات نهائياً، فأصحاب الواسطات وأولاد المسؤولين وأقاربهم وغيرهم هم أصحاب الأولوية، وساهم ذلك بقتل الروح العلمية والعملية في المؤسسات والمجتمع ورفع مستوى البطالة بينها 99.9%.
-عدم توفير بيئة عمل مناسبة ماديا وعلمياً، وإذا تابعنا المشاريع والخطط التنموية والدراسات المختلفة التي قدمتها الكثير من العقول وأصحاب الخبرات خلال السنوات الماضية وإهمالها من قبل الحكومة وتهميشها وعدم الأخذ بها، دفع الكثير من أصحاب هذه العقول للهجرة نهائياً إلى دول أوربا الذي قدمت لهم فرص استثمار لطاقاتهم.
غياب القانون والعدل فاقم الوضع سوءاً
إن الحفاظ على الكفاءات العلمية واحتضانها مهمة ليست بالسهلة في الوقت الحاضر وفق التحديات التي تواجهها في غياب الديمقراطية الحقيقية والشفافية والعدالة الاجتماعية، واستمرار المنهج نفسه الذي تتبعه الحكومات المتعاقبة، والصعوبات الاقتصادية والتخبط في خطط التنمية، بكل صراحة، من الصعب على العقول المميزة في هذا العصر المادي وبناء الثروات بالفساد الذي نعيشه رفض فرصة الاغتراب الذي يحقق مزايا مادية ومعنوية وحتى تقدماً في مجاله اختصاصه وعمله، وهنا نتساءل: كيف تؤسس الدولة اليوم استراتيجيات من شأنها تشجيع هذه العقول على الاستمرار في بلادهم وتحقيق بعض المميزات لهم؟
إن موضوع استعادة العقول قبل الانتهاء من الحفاظ على العقول هو كمن يبني بيتاً على رمال متحركة، فالأولى الحفاظ على ما لدينا، وآليات الحفاظ على العقول هي نفسها ستكون جاذبة للعقول المهاجرة، فعوامل الطرد أشد من عوامل الجذب في بلادنا. فقبل التفكير في استعادة العقول على حكوماتنا التفكير أولاً في وقف هجرتها، أما القفز إلى مرحلة الاستعادة فيترك الحلقة الأكثر حيوية وأهمية وهي سبل إبقاء العقول الحالية والمستقبلية، فعلى الدولة ترتيب الأولويات، والأخذ بمبدأ عصفور في اليد خير من عشرات العصافير على الشجرة، إضافة إلى وضع آليات تساعد في الإبقاء على ما لدينا من كفاءات أولاً؟
فوقف النزيف أولى من البحث عن متبرع وآليات الحفاظ على ما لدينا من عقول ستكون حافزاً لجذب العقول المهاجرة بشكل او بآخر. فبكل تأكيد، الأولوية ستكون بالاهتمام بما لدينا من الكفاءات المحلية لأن هذا سيكون من بين الدوافع التي تجلب الكفاءات المهاجرة، وذلك بتوفير كل الظروف المناسبة لها لإبقائها من استقرار أمني واجتماعي وسياسي … الخ.
هل من سبيل لربط الكفاءات المهاجرة بالمحلية بشكل يمكنها من الاستفادة مما حصلته تلك العقول، وفي الوقت نفسه يزيد دعمها للبقاء في بلادها؟
الربط بين الكفاءات المحلية و المهاجرة نقطة مهمة، لأنها تمكننا من الاستفادة من الخبرة المكتسبة وفي الوقت نفسه يمكن استعادة البعض، وهذا على مراحل: أولاً خلق شبكة إلكترونية بحيث يمكن التواصل الدائم وإبداء الآراء، ويمكن كذلك إحصاء هذه الكفاءات ومعرفة ما هو تخصص كل واحد ووضعه بعد ذلك في الميدان الذي لديه الخبرة فيه، وكذلك يمكن دعوته للمشاركة في الندوات والملتقيات التي تتناول المهمة في التطوير التكنولوجي والعلمي والاقتصادي …الخ والخروج بحلول مهمة شارك فيها، وهنا يكمن أهمية مديرية البحث العلمي والتكنولوجي في استعادة العقول المهاجرة .
إصلاح المنظومة الاجتماعية عامل أساسي، فمن بين أهم تحديات جذب الكفاءات صدمة العقول المهاجرة عندما ترى قوانين العدالة الاجتماعية واحترام الإنسان وحريته وكرامته، والتنافس الشريف في الحصول على الوظيفة وفق الكفاءة والمقدرة العلمية ضمن برنامج الانصهار الاجتماعي في دول المهجر، التي يكون نجاح الإنسان فيها عطاءه ومقدرته العلمية، لا انتماءه الحزبي أو منطقته أو ديانته.
تحقيق الاستقرار الاجتماعي وأخذ زمام المبادرة لإطلاق مشروعات التنمية، ولكن حتى لا نكون محبطين أو يائسين علينا اتباع استراتيجية قصيرة الأمد، أساسها مد الجسور بين كفاءات الداخل والخارج عبر مؤسسات حكومية تُعنى بذلك، ومنظمات علمية وأكاديمية يمكن من خلالها تحقيق تواصل علمي، من تدريب وإجراء بحوث تشاركية، عبر منظومة سهلة مقننة بقوانين تتيح الحرية الفكرية وتقلل البيروقراطية في التعامل، والسبيل إلى ذلك تكون من خلال تأسيس دائرة أو هيئة خاصة بالكفاءات العلمية المهاجرة، تنسق مع دوائر الدولة المختلفة المعنية بالكفاءات، تأخذ على عاتقها مسؤولية أرشفة وحصر أعداد جميع الكفاءات العلمية المهاجرة، والتي في نيتها الهجرة، وتصنيفهم حسب الاختصاصات وفق الأساليب الحديثة، وجمع ملخص (سيرة ذاتية) لكل منهم، بحيث يسهل الرجوع إليها للاستفادة من خبراتهم في المشروعات التنموية. وتوفير عقود عمل ومعيشة مناسبة لهم، بالتنسيق مع الدول الخارجية، ودعوتهم لاستشارات فنية يرتبطون من خلالها بالمشروعات المهمة التي تقام في أثناء مناقشة خطط التنمية أو دراسات الجدوى الاقتصادية للمشروعات المختلفة، أو التعاقد معهم لفترات محددة برواتب مجزية في إطار تنفيذ تلك المشروعات. والهدف من التواصل مع الكفاءات المهاجرة هو الاعتماد عليهم كحلقة وصل، لتزويد البلاد بكل ما هو جديد من المؤلفات والإنتاج الفكري والعلمي والتكنولوجي؛ تعويضاً للحرمان العلمي والثقافي، ومعاصرة الثورة العلمية للقرن الحادي والعشرين، إضافة إلى دعوتهم لإلقاء المحاضرات والمشاركة في الندوات والمؤتمرات العلمية في مجالات تخصصهم، وتسهيل لقائهم مع زملائهم في التخصص وفي مراكز البحث والجامعات السورية.
إشراك الكفاءات المهاجرة في منظومة البحث العلمي يعضد فكرة الاستقطاب، من خلال دعوة المتميزين منهم ليكونوا أعضاء في مجالس البحث العلمي ولجان التخطيط في البلاد، فمهارات هذه الكفاءات وعلومهم وخبراتهم تشكل مفاتيح التنمية في شتى الميادين، إذا ما أُحسن استثمارها في الأماكن المناسبة، وقيمتها في ازدياد متسارع ومطرد، تتجاوز كل الحسابات في المنظومة التعليمية والمالية، فهي تشكل ثقلاً علميّاً وثقافيّاً وسياسيّاً واجتماعيّاً في الساحة الأكاديمية والإنتاجية.
فالعقول العلمية لن تعود إلا إذا أحست بالأمن والرعاية والدعم المادي والمعنوي لكل إنتاجاتها وإبداعاتها، فما نحتاجه اليوم هو الدولة الرشيدة القوية القائمة على العمل المؤسسي، والسيد فيها هو الدستور والقانون الذي يحقق العدالة الاجتماعية وتلبية الحاجات الأساسية للمجتمع أو ما يسمى الضمان الاجتماعي والصحي والتعليمي، إضافة إلى التنافس على البرامج لا الإيديولوجيات المتطرفة، علمانية كانت أم دينية، وعندئذٍ ستعود العقول العلمية المهاجرة سواء كانت ذات صبغة دينية أم ليبرالية أم غيرها، وذلك أفضل من أن تبقى كفاءاتنا العلمية ثروة محروقة كحال الثروات الطبيعية.