بعد عصر الآلة فقر العقول سبب فقر الجيوب

سامر منصور:

بعد تجاوزنا لعصر الآلة نحو عصور أكثر عطاءً وتقدماً، لم يعد هناك مُبرر لوجود الفقر سوى رغبة أهل السلطة بالإفقار، والفقر هو محور هدر حقوق الإنسان الأساسية التي تتمثّل بحقّه بحياة مستقرّة وحقّه بالمسكن والتعليم، وتمكينه من مُتطلبات إنشاء أسرة، وحقوقه بحريّة التعبير والأجر المُنصف.

إن هدر حقوق الإنسان غايته حرمانه من حقّه بتحصيل حصّة عادلة من ثروات أرضه والوصول إلى العدالة الاجتماعية وتحويله من إنسان حرّ إلى بديل أكثر ذكاءً وتطوراً عن الدواجن والدواب، فما يُحصّله طاغية ما من(قطيع بشري) أكثر ممّا يمكن تحصيله من أيّ قطيع آخر، لذلك يجب تحويل التجمعات البشرية والمجتمعات إلى قطعان تسرح في حقول الأحلام والآمال الكاذبة التي يُكرّسها صُنّاع الأيديولوجيا بشعاراتهم وتجترُّ هذه الشعارات وعاداتها المُتخلفة وتخشى كلاب الراعي وتنساق إلى حيث يريد، وترضى بأن تُجزَّ وتُحلب ويُذبح بعضها على مرأى منها وهي على حالها من الطاعة والاستكانة.

إن أكبر خطر على حقوق الإنسان هو من لا يعترف أصلاً بالقيم الإنسانية وبالكيان الإنساني، إنها الرأسمالية العالمية التي تريد تشييء الإنسان، يُضاف إليها الرأسماليين العرب الذين لعبوا دوراً خطيراً ومحورياً في تغذية وإطالة عمر الجحيم العربي، وإن الطُغاة عبر التاريخ هم حُرّاس الرأسمالية سواء كانوا مُستبدين يضطهدون شعوبهم، أو أنظمة دول استعمارية تضطهد شعوباً أخرى. كما تستخدم الأنظمة الرأسمالية للدول الاستعمارية شعارات إنسانية، وتلعب على وتر آمال الناس بحياة أكثر استقراراً ونجاحات ورفاه، وتُمارس إرهابها بحقّ شعوب أخرى تحت شعارات منها نشر الحرية والديمقراطية وحفظ الأمن والسلم الدوليين، كذلك تُمارس الأنظمة الاستبدادية تجارة الآمال والأحلام وتمارس إرهابها بحقّ شعوبها تحت شعارات منها حفظ الأمن الوطني والتصدّي لتآمر من يستهدفه !! وتستخدم هذه الأنظمة المُستبدّة الرأسمالية أحزاباً اشتراكية لإعطاء طابع مُغاير لتماهيها مع من تدّعي محاربتهم، وإذا أرادت أن تُحضّر شابّاً أو فتاة كنموذج وأيقونة لنجاح التعولم ولأنماط الحياة الاستهلاكية، أي إنسان هو النموذج الذي تنشد الرأسمالية العالمية أن يعمُّ الأرض في كونه متلافاً ومهووساً بالموضة والتكنولوجيا وإكسسوارات الحياة، فكل ما عليك فعله هو احضار ابن أو ابنة مسؤول كبير في حزب اشتراكي عربي ! الرأسمالية هي نقيض حقوق الإنسان، وكل ما تريده من شعاراتها البرّاقة هو أن لا يثور الإنسان على الاستغلال الذي يخضع له في سياقات أنماط الحياة التي تسعى إلى تعميمها.

هناك حقوقٌ غير منصوص عليها تشريعياً يتمُّ اسقاطها بسبب أنماط الحياة في الدول التي يُهيمن عليها النظام الرأسمالي، كحقّ الأم التي ربّت وتعبت وخصّصت من عمرها وشبابها وصحتها كي تربي أبناءها، حقّها في أن يخصّصوا لها من وقتهم واهتمامهم ومحبتهم عندما تصبح عجوزاً واهِنَة الجسد، لكن نمط الحياة الاستهلاكي يجعل الأجيال الصاعدة في سباق محموم للعمل والكدح كي يُغيّروا سياراتهم وهواتفهم وسائر ممتلاكاتهم ويواكبوا مجتمعاً يُقيّم الإنسان من خلال أشيائه!

هناك تفاوتٌ بين الناس له عوامله الموضوعية المُرتبطة بالبيئة الاجتماعية من جهة، وبالفوارق الجينية والموّرثات من جهة أخرى، ولذلك لا يمكن لمجتمع متفاوت أن يسير بشكل متجانس بالسرعة والتسارع ذاته ما لم تتكامل وتتواشج مكوّناتها ويقبل من فيه ثنائية الأخذ والعطاء بأعمق وأبلغ أبعادها بنسب تُحقّق الدعم للصيغة التكاملية لهذا المجتمع. بينما التفضيل هو الصيغة التي تُعمّمها وتُكرّسها أنماط الحياة الاستهلاكية حيث بلغ التفضيل حدوداً تجاوز فيها التفضيل ضمن نطاق الأشياء لينسحب فيها على الإنسان بحيث يكتسب مكانة وقيمة اجتماعية كبيرة من خلال أشيائه وممتلكاته فقط! على سبيل المثال كان هناك محل (شاورما) كبير معروف في حيّنا، وكان يلزمني نصف ساعة انتظار تقريباً كي أحصل على (سندويشة) وذات مرّة جئتُ إلى المحل راكباً سيارة فارهة كنتُ قد استعرتُها من أحد أصدقائي (هامر اتش تو) فوجدت مالك المحل شخصياً يأتي باتجاه السيارة ويسألني عم أريد، ثمّ وخلال دقائق حضر طلبي بلا أي مال إضافي.

قد يقول قائلٌ ماذا عن الدساتير والتشريعات التي تصون حقوق الإنسان، كحق الإنسان مثلاً بالاجتماع والتعبير كون أول كلمتين في تعريف الإنسان(هو كائن اجتماعي) إن جميع القوانين والتشريعات تتضمّن حقوقاً وواجبات، الواجبات هي في معظم الأحيان ما يُطبّق وأعني الشقّ المُخصّص لتقديم فروض الطاعة ودفع الضرائب، أمّا ما تبقّى فهو هُراء يخدعنا به الجشعون المتسلّطون كي لا نرى عبوديتنا الجزئية التي نعيشها. هناك دائماً طريقان، طريق القانون البيروقراطي البطيء غير مضمون النتائج، وطريق الواسطة والهاتف السحري الذي يحلُّ ببضع عبارات أكبر مشكلة. إن الجشعين المُتسلّطين الذين ينهبوننا ويقتلوننا عند الضرورة بذريعة المصلحة الوطنية من جهة، وبذريعة حفظ السلام والأمن الدوليين من جهة أخرى، أضحوا أكثر ذكاءً، فهم ليسوا كملوك الماضي يستخدمون القوة لمضاجعة من يشاؤون وتحصيل الثروات ومتاع الحياة الدنيا التي يشاؤون، ممّا يُثير مع الزمن غضباً شعبياً متراكماً يطيح بهم. هم أضحوا يُفقِرون الناس إن كانوا مستبدين، أو يمنعونهم من التقدم والتطور إن كانوا من الدول الاستعمارية. ببساطة، متلازمة الفقر والجهل ستوفّر نسبة جيدة من العاهرات والكلاب النهاشة المُطيعة ومن يحمل الهدايا من رأسماليين صغار وعوام لهم كي يتمَّ تيسير أمورهم ومنحهم حقوقهم بالتقسيط، وسيتدافع هؤلاء ويصطفون عند أبواب المُتسلطين ويشعرون بالامتنان وليس بالحقد، لأن المُتسلّط يأخذ منهم الهدية الرشوة، لذلك نجد أنفسنا اليوم نعيش في عالم مجنون عاهر وحشيٍّ مُنافق لا يُشبه الإنسان، بل يُشبه كلب حراسة مسعور لرجل ثري أو عاهرته المازوخية!

العدد 1104 - 24/4/2024