من حقي أن تكون لي أسرة

إيناس ونوس:

منحت الطَّبيعة الإنسان حقوقاً بديهيةً لم يسعَ للحصول عليها، إلاّ أن الحياة البشرية وما حملته من حروبٍ ودمار وفراقٍ وويلات، أدَّت به لأن يبحث مُجبَراً عن حقوقه الضَّائعة والمُنتهكة، ما ألزم الهيئات الدَّولية بأن تُخصِّص يوماً مُحدَّداً من كل عامٍ للتَّذكير بهذه الحقوق والتي كما أسلفنا أنها من المُفترض أن تكون بديهيةً، ولاسيما في وقتنا الراهن، في عصرٍ تحاول فيه البشرية امتلاك كل وسائل الرَّفاهية والرَّخاء الاجتماعي وو… إلخ.

من هذه الحقوق، حقُّ الإنسان أن ينشأ في أسرةٍ متوازنة، بين أمٍ وأب ومع إخوةٍ وأخوات، غير أن هذا الحق البسيط بات عصيَّاً على التَّحقيق في ظلِّ تزايد أعداد الأُسَر المُفكَّكة المخالفة لقوانين الطَّبيعة، بحكم أسبابٍ عدَّة، تُفضي جميعها في نهاية المطاف إلى النَّتيجة ذاتها.

وقد عايشناها نحن السُّوريون ولا نزال، سواء خلال الحرب الشَّرسة التي سرقت من عمرنا ثماني سنوات ولمَّا تزل نتائجها تُجبرنا على المزيد، أو قبلها بحكم الظروف الاقتصادية والتعليمية وو… إلخ، فكم من طفلٍ كَبُر ونشأ في ظلِّ غياب أحد والديه (وغالباً ما يكون الأب) إمّا بسبب الموت أو الطَّلاق، أو الهجرة، أو الاعتقال، وفي أبسط الحالات ناتج الواقع الاقتصادي المُتردِّي الذي يُجبر كلاً من الوالدين على الغياب الطَّويل عن أبنائهم سعياً لتأمين مستلزمات المعيشة.

يكبر أطفالنا اليوم، وفي أذهانهم صورةً مختلفةً لقوام الأسرة الطَّبيعي عمّا كان سائداً، ولا ذنب لهم، فقد كبروا وهم يُعايشون أسرةً مكوّنةً من مسؤولٍ واحد، بينما الآخر غائبٌ يسمعون عنه في القصص والحكايات أو في الكتب المدرسية فقط، وفي أفضل الأحوال يعرفونه من خلال كاميرا وسائل التَّواصل الاجتماعي نظراً لبُعدِه المكاني عنهم، ما أدَّى لتخلخل المفاهيم والموازين الاجتماعية والقيم التَّربوية، إضافةً للكمّ الهائل من النَّكسات النَّفسية والعُقد التي تتشكّل في اللاوعي عند هؤلاء الأطفال ناتج النَّقص الذي يعيشونه مهما صوروا أنفسهم على أنهم أقوياء وقادرين على الوقوف بصلابةٍ أمام تحديات الحياة. ومثالٌ واحدٌ عايشه الكثير منّا قبل وبعد الحرب دليلٌ كافٍ. سفر الأب وغيابه عن البيت بغية تأمين مستقبلٍ مادي مريحٍ ومضمونٍ لأبنائه، يُجسِّد وجوده في حياتهم تلبيةً لمطلبٍ واحدٍ ألا وهو الأمور المادية، أما باقي القضايا الحسّاسة ومفاصل حياتهم لا يعرف عنها شيئاً ولا هم يرونه بها، ما يجعلهم ينفرون من حضوره إن حصل فيما بعد لأنهم لم يعتادوا عليه إلاّ زائراً مرةً واحدةً في العام، أمّا ما بعد الحرب فقد باتت حتى هذه الزِّيارة مُلغاة، واقتصر وجوده مرتبطاً بتوافر الانترنت وإمكانية التَّواصل معه عبر الكاميرا فقط _ إن حدث _ فالكثير ممّن هاجروا رموا كل شيءٍ خلف ظهورهم ولم يعودوا يلتفتوا إلى من تركوهم، وما هي احتياجاتهم وكيف يعيشون أو كيف يكبرون، ما أودى بالأبناء لنسيانهم كليّاً، ليكتشف الآباء فيما بعد أبناءً لا يعرفون عنهم شيئاً، أو ليُصادف الأطفال الذين أصبحوا شبّاناً وشابّاتٍ آباءهم وليس بينهم ذكرى واحدة.

فهل تستطيع البروتوكولات الدَّولية والمواثيق والأعراف الأمميّة أن تقف أمام هذا المشهد؟؟ وبماذا يمكنها أن تُجيب كل طفلٍ يصرخ بوجهها صرخةً مدويةً تقطِّع الأوصال ليقول… من حقي أن أعيش في أسرة!!!

العدد 1102 - 03/4/2024