ازدواجية الحقوق في زمن الحضارة

إيمان أحمد ونوس:

منذ أن وعى الإنسان وجوده على الأرض، وعى حريته ربما لأزمان لم تكن طويلة قياساً لوجوده في هذا الكون حتى اليوم، حرية أخذته لاختيار نمط حياته بالشكل الذي ناسبه آنذاك، فكان سيّد الزمان والمكان بأفكاره البدائية والعفوية والفطرية..

لكن ومع بدء ظهور الملكيات وتقسيم الأدوار والعمل، وما أدى إليه من تقسيم المجتمع إلى طبقات وشرائح وفئات تمّ تصنيفها وفقاً لما تملكه من مال أو جهد، فقد بدأت الحرية، ومن ثم الحقوق والواجبات تتّخذ أشكالاً تتوافق مع النظام السائد في كل مجتمع، حين كان الجاه والمال مصدراً أساسياً للسلطة والقوة، لتأتي بعدها الأديان التي حازت على سلطة لا يُستهان بها في مختلف المجتمعات البشرية، فكان الإنسان خاضعاً بشكل أو بآخر لعموم تلك السلطات التي ارتأى بعضها التوسّع بالنفوذ من أجل المال من خلال غزو مناطق أغنى لتتمّ السيطرة عليها عبر حروب طويلة أدّت إلى انتهاك خصوصية وحقوق المجتمعات أو البلدان المُستهدفة عبر تاريخ حافل بالخراب والموت وصولاً إلى العصر الحديث بحربيه العالميتين حيث ساد الانتهاك الظالم لإنسانية البشر، فما كان من بعض المفكرين والمثقفين الذين رأوا أن استمرار الوضع على ما هو عليه سيصل بالبشرية إلى حافة الهلاك والإبادة إن لم يتمّ لجم جماح الدول الكبرى ذات النفوذ والسطوة وذلك عبر وضعهم لائحة تتضمّن الحقوق الأساسية التي يجب أن يتمتّع بها عموم الناس في مختلف بقاع الأرض، عُرِفَت عالمياً بلائحة حقوق الإنسان وذلك بنهاية الحرب العالمية الثانية، بقصد إحلال السلم والمساواة والعدالة بين البشر والدول على حدٍّ سواء.

لكن، ومنذ ذلك التاريخ وحتى اليوم، يبدو أن تلك اللائحة بحقوقها المعروفة، لم تلقَ الاهتمام أو احترام الدول بعضها لبعض، أو الحكومات لمواطنيها الذين نصّت دساتيرها على حماية وصون حقوقهم الأساسية. كما نجد أيضاً أن الدول الكبرى تنظر إلى تلك الحقوق من زاويتين متباينتين، بمعنى أنها ترى حقوق مواطنيها وشعوبها حقوقاً مُقدّسة يجب احترامها وصونها وتعزيزها، في حين ترى ذات الدول حقوق دول وشعوب أخرى تكمن في إذلال تلك الدول وشعوبها بشتى الطرق والوسائل حتى لو كانت دموية، فموت إنسان في دول صغيرة أو تابعة لا يُشكّل لها أزمة أخلاقية ما دام الأمر في سياق مصالحها.

في حين أن ذات الدول الصغيرة التي تُعاني القهر من تبعيتها للدول الكبرى، لا تجد غضاضة في انتهاك حقوق مواطنيها يومياً، عبر القمع والتسلّط وإفقار الشعوب جرّاء فساد مُستفحل التهم ويلتهم يومياً خيرات وثروات البلاد دون أن يرفّ جفنٌ لمسؤول أو صاحب سطوة.

من هنا نتلمّس مدى القهر الذي يُعانيه غالبية الناس في مختلف المجتمعات، لاسيما المغلوبة منها كما وصفها ابن خلدون، قهر عشّش في النفوس حتى صار من نسغ تكوينها عبر رحلة أبدية ما بين الحقوق والواجبات.

العدد 1102 - 03/4/2024