القانون السوري يُجرّم الضرب… والعرف أقوى تجاه المرأة

في قانون العقوبات السوري هناك عدة مواد تمنع وتُجرّم ضرب المرأة عموماً، منها المادة 540 التي تنص على:

من أقدم قصداً على ضرب شخص أو جرحه أو إيذائه، ولم ينجم عن هذه الأفعال تعطيل شخص عن العمل لمدة تزيد على عشرة أيام، عوقب بناءً على شكوى المتضرر بالحبس ستة أشهر على الأكثر، أو بالحبس التكديري وبالغرامة من خمس وعشرين إلى مئة ليرة، أو بإحدى هاتين العقوبتين.

المادة- 541: إذا نجم عن الأذى الحاصل تعطيل شخص عن العمل مدة تزيد على عشرة أيام عوقب المجرم بالحبس مدة لا تتجاوز السنة، وبغرامة مئة ليرة على الأكثر، أو بإحدى هاتين العقوبتين.

المادة- 542: إذا جاوز التعطيل عن العمل العشرين يوماً قضي بعقوبة الحبس من ثلاثة أشهر إلى ثلاث سنوات، فضلاً عن الغرامة السابق ذكرها.

المادة- 544: يعاقب بالعقوبة نفسها من تسبب بإحدى الطرائق المذكورة في المادة540 بإجهاض حامل وهو على علم بحملها.

نتلمس من هذه المواد، وبدلالة المادة 544  أن القانون السوري يمنع ضرب المرأة من أي شخص كان( أب، أخ، زوج… إلخ)، ويتشدد بالعقوبة إذا نجم عن هذا الضرب أذية جسدية وتعطّل عن الحركة والعمل، رغم عدم وجود نص صريح يجرّم ضرب المرأة تحديداً في القانون المذكور. وهذه إحدى الثغرات الهامة والأساسية، لأن المرأة عموماً هي التي تقع تحت وطأة هذه الظاهرة الشائعة في العلاقات الأسرية والزوجية، لكن على نحو شبه مستتر للأسف، لأنها تقع في صميم الحياة الأسرية الواجب حمايتها وصونها من كل تشهير أو إفصاح بما يخص تلك الممارسات المشينة، حسبما ينص العرف الاجتماعي الذي يُدين أية امرأة تعترف أو تُشهّر بولي أمرها أو من قام بضربها وتعنيفها من أفراد الأسرةٍ.

إضافة إلى أن بعض الحقوقيين أو القضاة أو الاختصاصيين الاجتماعيين من يقول بندرة هذه الحالة في المجتمع السوري، ورأت إحدى الإعلاميات أنها حالة استثنائية ربما تتعرض لها بعض النساء، لكنها ليست شائعة لدرجة تجعل منها قضية رأي عام فيما يخص قضايا المرأة.

باعتقادي هذا قول غير دقيق لما يكتنف هذه الحالة من غموض وتستّر وخجل من المرأة التي لا يمكن أن تعترف بأنها تتعرض للضرب من والدها أو أخيها أو زوجها، وإذا ما افترضنا التوجّه بالسؤال التالي للنساء: كم مرة ضربك زوجك؟

نجد أنه سؤال فيه من الإحراج، وربما الإهانة بنظر بعض النساء، أو الاستغراب والاستهجان في معظم البيئات تقريباً.

لكن السؤال الأجدى والأهم: من هي المرأة التي تجرؤ على الاعتراف بضرب زوجها لها، خاصة في يومنا هذا الذي ترى المرأة، ومعها المجتمع، أنها نالت فيه قدراً معقولاً ومقبولاً من حقوقها التي كانت مهدورة في سالف الأيام والأزمان..!

إن من يقولون باستثنائية هذه الحالة- الضرب- في حياة المرأة والمجتمع واهمون باعتبارهم إياها حالة نادرة أو متناثرة لا تشكل ظاهرة تستحق أن تنهض عليها دراسة أو تحقيق في مجتمعنا، ولا يصح الارتكاز عليها كقاعدة للبحث والتقصي، حتى ولو جاء هذا الكلام على لسان قاضٍ في المحكمة الشرعية!

ما لا يصح الارتكاز عليه هو الأمور الظاهرية من وصول المرأة إلى معظم حقوقها في هذه الأيام، بالنظر لما حققته في مجال العلم والعمل خارج المنزل، وارتدائها لآخر صيحات الموضة، أو وصولها إلى مناصب قيادية أو إدارية. لأن خلف كل باب قصص لا يمكن لأحد أن يتعرف إليها كلياً، خصوصاً فيما يتعلق بالحياة الزوجية. إذ إن الرائز الاجتماعي في تلك العلاقة هو الأقوى والسائد، بحيث يمنع ظهور بعض السلبيات التي تُعدُّ من أشدّ خصوصيات الحياة الزوجية، أو من أهم حقوق الزوج على الزوجة، إضافة إلى أن من حق الأسرة على الزوجة أن تصون أسرار أسرتها وزوجها حتى لا يصبح قصة يتناولها الآخرون، أو أن يخسر احترامهم، وقد تؤدي لتدمير دعائم هذه الأسرة. لذا نجد المرأة تلوذ بالصمت عمّا يجري معها داخل الحرم الزوجي، حتى عن أقرب الناس إليها.  فالمرأة بكل حالاتها( ابنة، أخت، زوجة، وحتى عاملة) تتعرض تقريباً للضرب من الرجل، وذلك بفضل الأحقية التي منحها الشرع والقانون والمجتمع للرجل بأن يكون قيّماً على المرأة اعتماداً على الآية الكريمة التي تقول: (الرجال قوّامون على النساء).

والأسرة تربي البنت منذ صغرها على الاستكانة والضعف تجاه الأب أو الأخ، حتى ولو كان أصغر منها سناً، وتُحمل هذا الرجل مسؤولية تربيتها وتأديبها إذا لزم الأمر، وهكذا بالنسبة للزوج، فكيف يمكن لها أن تثور على ما هو عرف وموروث؟ وحتى إن ثارت، فهي ستُلام وتُدان حتى من الأهل الذين يفرضون عليها القبول، حتى لا تخسر أطفالها وبيتها، كما يفرضون عليها الصمت حتى لا تُسيء إلى حياتها الزوجية، فتصبح قصة على الألسن.

وكذلك الأمر في تطبيق القانون الذي يعاقب الزوج في حال أقدم على ضرب زوجته، فإن المسؤولين عن تطبيق هذا القانون هم رجال من نتاج هذا المجتمع بكل موروثه وقيمه. إنهم ينظرون إلى المرأة التي تلجأ إلى القانون إذا ما تعرضت للضرب باستهجان واستهزاء، إن لم نقل باحتقار ووضاعة، وكأنها اقترفت فعلاً أخلاقياً مشيناً، وقد يطلقون عليها الصفات التي لا تليق بإنسانيتها وكرامتها.

وتأكيداً لما أقول فقد سمعت في إحدى المرات أحد رجال الشرطة، وهو مكلّف بالتحقيق في شكوى مقدمة من إحداهن:( إن فلانة- واتبع قوله بأبشع النعوت والصفات اللاأخلاقية تجاهها- اشتكت زوجها للمخفر لأنه يضربها، واستطرد بقوله: من منّا لم يرَ أباه يضرب أمه؟ ومن منا لم يضرب زوجته؟).

وطبعاً كلامه صحيح للأسف، لأننا جميعاً تقريباً رأينا أمهاتنا يُضربن، أو إحدى قريباتنا أو حتى نحن، إن كان من قبل إخوتنا الذكور أو أزواجنا، ولكن دائماً نتعامل مع هذه الظاهرة بالصمت باعتبارها عادية في حياتنا، ولأنها متجذّرة في ثقافتنا الاجتماعية على أنها طبيعية، ولا يجوز لنا إفشاء أسرار بيوتنا، ولأننا نخجل من تعرضنا للضرب. مع أنني أرى أنه أمر لا يستدعي الخجل بالنسبة إلى المرأة، وإنما للرجل الذي يستقوي على إنسانة تربطه بها إما قربى الدم، أو الرابط الزوجي، وبالتالي ليس من القوة والرجولة أو الحكمة أن يتعامل معها بأسلوب الضرب. 

لذا تبقى هذه الظاهرة من العنف تجاه المرأة مستترة إلى حدٍّ ما، ويؤكد ذلك تناول الدراما التلفزيونية لها. ومن هذا المنطلق ليس هناك إحصائيات دقيقة عن هذه الحالة وانتشارها، ولا تشكل في العرف الاجتماعي انتهاكاً وعنفاً ضدّ المرأة يستدعي تسجيلها بدقة ومحاولة إحصاء عدد النساء اللواتي يتعرضن للضرب، وعلى المستويات كافة. لذا، على القانون أولاً وفي أسوأ الأحوال أن يسنّ مواد صريحة بخصوص تعنيف المرأة، لكنّ الأهم هو تشريع قانون يمنع العنف الأسري في المجتمع عموماً، وتجاه المرأة خصوصاً، لأن المجتمع المعتاد على تعريض نسائه للعنف، لا يمكن أن يُعطينا إلاّ أفراداً مُعنّفين وعنيفين، وبالتالي نكون في مجتمع سمته الأساسية هي العنف. فمتى تضاءل العنف تجاه المرأة، تضاءل العنف في المجتمع كله.

العدد 1102 - 03/4/2024