وطن…

(وطني حبيبي عش يا وطني مرفوعاً حراً للأبد)، أغنيةٌ صدحت مراراً وتكراراً، غنيناها وأنشدناها وأحببناها، مشت في عروقنا، وتنشقت سماءنا وأرضنا وجبلنا، كم ارتفعت قاماتنا حين سماعها، وكم عشنا معها بكل الحب لترابنا وأرضنا ووطننا. نعم، إنه الوطن، تعلمنا لأجله وكبرنا به وتطورنا لمجده، سعينا بكل ما لدينا لنكون أوفياء له، لنجعله فخوراً بإنجازاتنا المتواضعة، مشبعاً بحبنا الكبير، مرتوياً بدماءِ نضالنا. في كل حروبه كان شعبه معه، لكل راياته كانوا أوفياء، ولانتصاراته كنا شاكرين، ولمجد علمه وتجارته وسياحته كنا خادمين.

كم سعى الشعب السوري ليكون مع الركب وبين قصص الحضارة الانسانية! كم ضحى لأجل العروبة والوحدة العربية! كم تنازل عن حقه في الحياة الرغيدة لأجل مصالح عربية وغربية، وكانت بعلم أو دون علم!

شوارع سورية الآن مهدمة، إنسان الحرية والكرامة قد ذُلّ، سوريّ العروبة قد تمت خيانته، ويُرصد مستقبله للقتل العلني. وقف كثيراً بعد كل كبوة، واستعاد نشاطه بعد كل خذلان، لكنه الآن يمشي وحيداً، لا يجد من يساند عجزه، ولا من يمسك بيده، ولا من يدقّ بابه ولا من يفتح له باباً… يشرب الحلبي اليوم من حُفَرِ الأرض فلا ماء تصله، سكان دير الزور وإدلب والرقة يعانون من قتل السلام ومن التعب وأرق التشرد والموت والحقد منهكون، وحمص الأبية بسبب ادعاء الطائفية تنزف الدماء، وتؤخذ من تدمر ما تبقى فيها من آثار، وها هي ذي دمشق تعاني غربة الدمشقيين وخوفهم وحرمانهم من سعادة الأيام وهناء البال. بيوتٌ مدمرة، شوارع محبطة، مدارس مغلقة، مشافٍ مريضة وفارغة من أسباب العلاج، بشرٌ متعبةٌ من رائحة الغدر.

أنا سوري وأرضي عربية، أنا وطني وطن الحرية، سمائي وأرضي ومائي أبية أبية… أين نحن من أغانينا؟ ماذا نلنا من أمانينا؟ وهل صدقت أهدافنا في تحقيق مقاصدها، أم ماتت الكلمة ونام الحلم وتأجلت العروبة؟.. هل بقيت سورية؟ هل بقي عرب؟ هل بقي الشعور بالوطن؟

كم لأبناء الوطن من طموح قد تأجل لأجل غاياتٍ من تراب مجدٍ لغيرهم! كم بنوا مستقبلهم وإذا بهم يعيدون بناءه مرات جديدة، لأجل عمار مال لأصحاب العلو. نحن نبني ويكونون هم الوطن، نحن نموت ويكونون هم الخلود، أصحاب القامات بمجد سورية يتشدقون، بأتباعهم السوريين والأغراب يتهللون ويحمسون ويقتلون ويشردون، لأجل الدين يسحقون، لأجل الخلافة يذبحون.

أضاع السوريون معنى الوطن، وربما أعادوا حياكة معنى جديد لكلمة وطن، منهم من صار له الأمان ولو بأراضٍ جديدة، منهم من صار لقمة العيش، أو الكرامة الانسانية، أو العلم، أو الحرية… وكلها خارج هذه الأراضي السورية.. كم مؤلمٌ أن تصبح سورية بعيدة عن مصطلح الوطن! كم موجع أن تسرق الحضارة من قلب أبناء هذا الوطن!! باتوا يسمعون أغاني الحماس وكأنها أغنية من كلمات فارغة، وبات حماسهم لا يتعدى الفرار من الألم…

كلمات مقالتي من يأس هذا الزمن، من حزن الحالة التي وصلت إليها البلاد، من أفراد باتوا ينسبون أنفسهم لبلاد اليمن، فتصبح مناطق سورية مع العراق واليمن منطقة واحدة، فيتقطع الكتف عن الصدر، ويصبح الوطن أجزاءً وأشلاء. حزن أحرفي ينبع من فتى سوري عبقري يسعى للفرار لإيجاد مستقبله خارجاً وبعيداً جداً عن هذا الوطن..من أم أصبحت تدعو أن تجد صورة ابنها بين صور الأحياء، ومن أب يطرق باب السفارات لينجو بأولاده…

انتظرت طويلاً وسأنتظر حتى أجد معنى لوطني، وقلباً ينبض بعروق أهلي، وتراباً يستقطب كل قطعة من جسدي ليحييه لا ليميته…

العدد 1104 - 24/4/2024