المفكر النهضوي السوري عبد الرحمن الكواكبي (1852-1902)

 أحد أبرز علماء النهضة والإصلاح الديني، كرّس جهوده الفكرية والعملية لإيقاظ شعبه على مخاطر الاستبداد وضرورة الحياة الدستورية الديمقراطية، معتبراً أن ذلك هو المخرج الوحيد للخروج من دائرة الانحطاط. قدم نسيجاً فكرياً جديداً متماسكاً يربط بين الفهم الليبرالي للفكر الديني ومصارعة الاستبداد، وحرية الإنسان وحقوقه الاجتماعية، ومن هذا كله خاض معركة الاشتراكية بمنطوق إسلامي.

أصدر صحيفة (الشهباء) في حلب عام 1878 و(الاعتدال) عام ،1889 لكن السلطات العثمانية أغلقتهما بسبب هجومهما العنيف على سياسة دولة الخلافة تجاه العرب…مارس مهنة المحاماة وفتح مكتباً في مدينته حلب لتقديم المشورة القانونية المجانية للفقراء، وظل يدعو ويدافع عن الفقراء ويهاجم رجال الدين الموالين للخلافة الذين أسماهم (عمائم السلطان) و(الجهلة المتعممين)، حتى ضاقت به الخلافة ذرعاً، فاعتقل وسجن عدم مرات. سافر إلى مصر لأنها كما قال (دار العلم والحرية)، وفي مصر لمع الكواكبي مفكراً ومناضلاً شجاعاً ضد الاستبداد، وداعية للحرية والاشتراكية.

والكواكبي يعني لجميع الباحثين كتابين (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد)، وكتاب (أم القرى)، إضافة إلى العديد من الأبحاث والمقالات والأطروحات وذلك في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.

ويمكن القول هنا: إن تاريخ إصدار كتاب ليس مقياساً موضوعياً لراهنية الأفكار والطروحات التي يحويها وحداثتها، فبعض الكتابات أكثر حيوية ومعاصرة مما يصدر الآن، ويستحق بالتالي أن تعاد قراءتها لا لكونها تحمل نظريات أو قيماً أو توصيفات متوافقاً عليها فحسب، بل لأنها وتبعاً لنظرية التلقي التي تقول بأن القارئ هو الذي يعيد كتابة النص وفق مخزونه المعرفي وأدواته واهتماماته، فإن بعض الكتب القديمة تُقرأ الآن لديمومة الإشكاليات التي تثيرها، ولتطابقها مع اهتمامات وهموم القارئ المعاصر والظروف التي يحياها.. وهذا ما نراه في كتابي (طبائع الاستبداد) و(أم القرى).

الأول يركز فيه الكواكبي الهجوم والانتقاد ضد الحكومات الإسلامية، أما الكتاب الثاني فإنه يركز على نقد سلبية الشعوب الإسلامية وحثها على النهوض لمقاومة الاستبداد، سواء استبداد الحكام أو استبداد رجال الدين.

فكتاب طبائع الاستبداد هو أول مؤلف في اللغة العربية اقتصر على موضوع واحد هو الاستبداد، بعد بحث ثلاثين عاماً إلى أن وصل بهذا (الداء الانحطاط)، كما يسميه الكواكبي (الاستبداد السياسي ودواؤه)، أراد أن يكون كتابه هذا مخصصاً لدراسة الاستبداد، كتاباً علمياً في السياسة يكرسه كاتبه لشرح آليات الاستبداد ومفاعيله وتأثيره الخطير في البنية الاجتماعية، ويتضمن تحريضاً شديد التأثير ودعوة صريحة للنضال ضد هذه الظاهرة.

كما تضمن الكتاب تحليلاً عميقاً لما يحيط بمجمل آليات الدولة الاستبدادية التسلطية، إذ يفضح الكواكبي في كتابه الموجز والشديد البلاغة آليات الاستبداد ونتائجه، محللاً سيكولوجية المستبد واستراتيجياته وغاياته وردود فعل المستبد، مستخدماً ركائز الحداثة السياسية القائمة على مفاهيم الديمقراطية والعقد الاجتماعي والمساءلة والمحاسبة، ومفهوم حقوق الإنسان والمواطنة، شروطاً لتحقيق العدالة والتنمية، ساعياً على شاكلة مصلحي عصره، إلى تأصيل هذه القيم في التراث الديني، مستشهداً في الآن نفسه بالتجارب العالمية المحققة، داعياً إلى فصل الدين عن الدولة ما نسميه اليوم بالعلمانية، كاشفاً استغلال الدين في حماية الأنظمة الاستبدادية وتثبيتها، مقترحاً أسساً للتغيير تقوم على رفع وعي الجماهير وعلى التغيير التدريجي وإلا جاء التغيير فوقياً ومؤذياً.

كان الكواكبي يعلم جيداً موضوع كتابه وتميزه كأسلوب رئيسي في علم السياسة الحديث في حينه وتعريفه بأهمية (إدارة الشؤون المشتركة بمقتضى الحكمة)، ويقابله الاستبداد وتعريفه (التصرف بمقتضى الهوى)، فيصبح الاستبداد لديه الموضوع الرئيسي لعلم السياسة لأنه النقيض المباشر للسياسة ومصدر التهديد لها.

وفي كتابه (أم القرى) يتخيل اجتماعاً عُقد في مكة (أم القرى) خلال موسم الحج عام 6131 هـ- 1898 لاثنين وعشرين مندوباً يمثلون جميع الأقطار الإسلامية للتداول في شؤون المسلمين، وأسمى المؤتمر (مؤتمر النهضة الإسلامية)، يدور فيه حوار حول ما يشغل بال المسلمين من أسئلة، وحددت كلمة الافتتاح كيف أن المسلمين باتوا في حال تقهقر بينما يتمتع العالم الغربي بنهضة كبرى كنا نحن حملة لوائها، والسؤال الأول: ما هو سبب التخلف؟ يجيب الأفعاني (إن الداء العام فيما يراه هو الفقر، ومن أعظم أسباب الفقر أن شريعتنا مبنية على أن في أموال الأغنياء حقاً معلوماً للبائس والمحروم، فيؤخذ من الأغنياء، ويوزع على الفقراء.

وفي الاجتماع التالي يقول السيد الفراتي إن أسباب التخلف عديدة، منها السياسة المطلقة وحرمان الأمة من حرية القول والعمل وفقدان الأمن والأمل وفقدان العدل والتساوي في الحقوق بين طبقات الأمة.

ويقول الرومي: إن البلية هي فقدنا الحرية، فالحرية هي أعز شيء على الإنسان.

ويتواصل الحوار الممتع الذي يصوغه الكواكبي على ألسنة المندوبين، ويجري في الحوار تأكيد لضرورة فصل الدين عن الدولة، لأن الأمم الحية ما أخذت في الترقي إلا بعد عزلها شؤون الدين عن شؤون الحياة وجعلهم الدين أمراً وجدانياً محضاً لا علاقة له بشؤون الحياة الجارية على قواميس الطبيعة.

إن قراءة الكتاب ووقائع الحوارات التي ذُكر جزء منها، نجد أن كل ما ورد في الكتاب إنما كان من ابتكار مخيلة المفكر النهضوي الكواكبي، بمعنى أنه لم تكن هناك اجتماعات ولا من يحزنون، كل ما في الأمر ذلك أن المفكر الشاب الغاضب على ما آلت غليه حالة الأمة الإسلامية وخاصة الأمة العربية كجزء أساسي ومميز من الأمة الإسلامية، جلس ذات يوم في مدينة حلب وعزم قبل أن يغادرها نهائياً أواخر القرن التاسع عشر على أن يقول ما عنده من أسباب تدهور الأحوال، مقترحاً الحلول، وهو رأى أن أفضل طريقة لذلك كما يبدو تكمن في عرض أحوال الأمة، ما يمكن لأبنائها أن يقولوه.. وهكذا ابتكرت مخيلة الكواكبي تلك الشخصيات التي وُصف كل منها بلقب يشير مباشرة أو مواربة إلى انتمائه الجغرافي، وقد بلغ عدد الاجتماعات 125 اجتماعاً نوقش فيها:

* أسباب الفتور السياسي من ديمقراطية إلى ملكية مقيدة ثم مطلقة.

* تأصّل الجهل في غالب الأمراء المترفين، وفي نقص حرية الكلام والخطابة والمطبوعات.. إلخ.

* مسؤولية الجهال المتعممين الذين يزينون للأمراء معاداة الشورى.

* ضرورة ترك التشدد في الدين.

* أن الفتنة التي أصابت الأمة كانت حول الخلافات بين الأئمة.

* أسباب انحطاط المسلمين وأرجعها إلى أسباب سياسية ودينية وأخلاقية.

* فساد الإدارة العثمانية.

* ترك النساء جاهلات، وبذلك فساد الأم والأمة والناشئة.

ومن الواضح أن عبد الرحمن الكواكبي قد لخص في فصول هذا الكتاب نظرته الخاصة إلى الأمة، وطرق تبديلها مستعيناً بأسلوب الحوار هذا الذي يشبه إلى حد ما الأسلوب الذي استخدمه أفلاطون للتعبير عن زمنه، وعن موقف أستاذه سقراط من أحوال الناس والكون، ولكن نص الكواكبي أتى أكثر تسييساً.

وأخيراً (أم القرى) جاء بعد (طبائع الاستبداد) ليحدد الطريق إلى الخلاص من الاستبداد في شكل متعدد الأصوات.. هذان الكتابان إضافة إلى نتاجه الفكري المتعدد والمتفرد، تشكل تراث هذا المفكر السوري الحلبي الذي ولد عام 1855 وآمن منذ صغره بأفكار التحرر والاستقلال والتقدم، وقدّم الكثير للفكر النهضوي على الرغم أنه لم يعش سوى 47 عاماً.

العدد 1102 - 03/4/2024