التوجه بعيداً عن هيمنة الإمبريالية… مرجعيات واستحقاقات

 حدد الأوربيون تاريخ التوقيع على الشراكة الأوربية السورية في تشرين الأول عام ،2009 بعد إيقاف مباحثات الانضمام في عام 2005من جانب واحد.كان القرار سياسياً حين توقفت مباحثات الشراكة، فقد كان لأوربا موقف متناغم مع إدارة بوش والضغوط التي مارستها لعزل سورية بعد الأحداث اللبنانية، وتبين أن الأوربيين ليسوا متمسكين بالشراكة الاقتصادية مع سورية إلاّ بالقدر الذي يخدم مصالحهم السياسية. أما الأحاديث التي سبقت توقيع الاتفاقية عن اهتمامهم بالسوق السورية، وبرامجهم لتأهيل الصناعات الوطنية للدخول إلى السوق الأوربي، ودعم الاقتصاد السوري، فقد تحولت انسجاماً مع ضغط الشريك الأمريكي إلى ضغوط سياسية – اقتصادية تراوحت بين تجميد اللقاءات السياسية وتوجيه الإنذارات، وبين وقف المساعدات الفنية والمالية، وتخفيض التعاون الاقتصادي إلى درجة الشلل.كما كان القرار سياسياً حين تسارعت مواقف الدول الأوربية باتجاه استئناف مفاوضات الشراكة بعد الانفتاح الفرنسي، والمواقف المعتدلة التي أعلنها ساركوزي في نهاية عام 2007. ثم جاءت الزيارات المتبادلة فعززت الرؤية الجديدة للعلاقة بين البلدين، وتعدلت بعدها مواقف الأوربيين الراغبين في دور سوري إقليمي وعربي جديد.. متناغم مع خطط أمريكية وأوربية تدبج لتصنيع شرق أوسط جديد- ونعتقد هنا أن السياسات الاقتصادية النيوليبرالية التي انتهجت في سورية، سهلت لدى الأمريكيين وشركائهم الأوربيين الاعتقاد بإمكانية تليين.. بل إلغاء النهج السياسي، المناهض للإمبريالية الأمريكية والصهيونية لسورية – وفُتحت بعد ذلك وليس قبله آفاق التعاون الاقتصادي والعودة إلى ملف الشراكة.

بعض مهندسي الاقتصاد السوري عقبوا على توقيع الاتفاقية بالأحرف الأولى في نهاية عام ،2008 بأنها (تضع أهمية الإصلاح الاقتصادي والتشريعات والقوانين في سورية على سكة واضحة)، فقلنا على صفحات النور: (عملية الإصلاح فعل ذاتي سوري، تحتاج إلى إرادة سياسية راسخة، ونهج اقتصادي متوازن، وإعادة تشكيل منظومة سياسية واقتصادية محورها المواطن السوري الذي ما زال يتطلع منذ سنين إلى مجتمع تعددي.. إلى نهج اقتصادي يجمع بين حرية المبادرة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية، فإذا لم تتحقق تطلعاته هذه حتى الآن، فلن تتحقق بالبنود التي لم تنشر تفاصيلها للشراكة مع الأوربيين.! هل ستجر قاطرة الشراكة عملية الإصلاح الاقتصادي في سورية إلى السكة المعلنة، إلى سكة السوق (الاجتماعي).؟ نحن نشك في ذلك، فالشركاء الأوربيون يصرون على التعامل مع اقتصاد السوق الحر.. ويطالبون بتفكيك أي احتكار حكومي لأي سلعة أو خدمة، كما يطالبون بتحرير قطاع النقل وإلغاء الدعم الحكومي للفئات الفقيرة. فمن هو المستفيد من هذه الشراكة؟ هل جاءت الموافقة الأوربية على توقيع الاتفاقية خدمة لتطوير الاقتصاد السوري ودعمه، أم تأتي ضمن سلسلة من الشراكات الأوربية مع البلدان النامية بهدف اكتساح أسواقها، ومعالجة الركود الاقتصادي الذي تعانيه دول الاتحاد الأوربي التي لم تخرج بعد من نفق الأزمة المظلم؟ أم تأتي تنفيذاً لاعتبارات سياسية بعد أن جمدتها خمس سنوات لاعتبارات سياسية؟ هذا ما علينا التأكد منه قبل المضي في توقيع الشراكة العتيدة. لا نريد العزلة لبلدنا.. واقتصادنا، وكل ما نرجوه من حكومتنا أن تدرس.. وتحقق ما يتطلبه وقوفنا على أرضٍ صلبة، فالرمال المتحركة تؤذي اقتصادنا.. ومواطننا تاريخياً. لم تتوقف محاولات الدول الاستعمارية الهادفة إلى استغلال الموقع الجيوسياسي لسورية في محاولة لربط دورها الإقليمي بالمشاريع الاستعمارية السيئة الصيت، كحلف بغداد، والحلف المركزي، والشرق الأوسط الجديد، لكن تلك المحاولات باءت بالفشل، وكان حجر الزاوية في إفشال تلك المحاولات رفض الشعب السوري بجميع أحزابه وفئاته الوطنية تجيير الدور الإقليمي السوري لصالح قوى الاستعمار والهيمنة.

قدر للسوريين أن يواجهوا منذ عام ونصف تدخلاً خارجياً يرقى إلى مستوى الإملاء.. والهيمنة.. وتقرير المصير، نيابة عن شعب أراد التغيير السلمي نحو الديمقراطية والعدالة الاجتماعية بطريقته.. وبأسلوبه. فأولئك الذين نزلوا إلى شوارع المدن السورية عبروا عن مطالب سياسية واجتماعية مشروعة، لكن مخططات التحالف الأمريكي الأوربي الخليجي رُسمت لغايات أخرى، فالمطلوب تهديم الإرث السوري الوطني في التآلف الاجتماعي والديني والطائفي، والتوجه نحو النموذج السلفي الذي أرادوه سيرورة لربيع عربي أرعب الإمبراطوريات الحديثة والقديمة، ووضع العروش والممالك في على قائمة الانتظار.

وهكذا بدأ العدوان الخارجي بحزمة من بالعقوبات الاقتصادية.. والحصار الجائر على منافذ حصول الشعب السوري.. والاقتصاد الوطني على مستلزمات الاستهلاك والإنتاج، فازدادت هموم وأزمات القطاعات الاقتصادية المنتجة التي عانت أصلاً من السياسات الانفتاحية خلال عقد كامل اتسم بالتشاور.. وطلب النصائح.. والشراكات.. ووضع مفاتيح هامة في عهدة أسواق.. ومصارف.. أحفاد الإمبراطوريات الاستعمارية.

المرجعية السياسية للتوجه بعيداً عن الهيمنة الإمبريالية.

سيطر القطب الأمريكي الأوحد على القرار السياسي والاقتصادي العالمي، ووضع (لوحة الوصايا) أمام دول وشعوب العالم، مدعوماً بقدرة عسكرية ولوجستية قادرة على تطبيق هذه الوصايا بقوة الطائرات المقاتلة والبوارج النووية، وَوضعَ المخططات لإعادة رسم السياسة الدولية المحابية لمصالحه ومصالح الصهيونية العالمية دون عقبات تمثلها هذه الدولة أو تلك، وتحت راية (الديمقراطية).. ومساعدة الدول النامية، كبحت الإمبريالية الأمريكية وشركاؤها كل تطلع وطني مستقل، واعتمدت في نشر نموذجها الاقتصادي(التثبيت الهيكلي) المؤسسات المالية والتجارية الدولية التي أصبحت (عرابة) الدول النامية.

لذلك فإن التمسك بالسياسة الوطنية السورية المعادية للإمبريالية الأمريكية والصهيونية، والمساهمة في الجهد العالمي لنزع سيطرة قطب واحد على السياسة الدولية، والعمل المشترك مع أصدقاء سورية لصيانة السلام العالمي، وتصفية بؤر التوتر، واسترجاع الأراضي السورية المحتلة، وحل القضية الفلسطينية بالاستناد إلى القرارات الدولية ذات الصلة، ودعم الشعب الفلسطيني في العودة وتقرير المصير.هذه التوجهات السياسية تعد حجر الزاوية الذي يستند إليه توجهنا المستقل بعيداً عن هيمنة الإمبريالية الأمريكية وشركائها.

المرجعية الاقتصادية للتوجه نحو الشرق.. والجنوب.. وجميع التجمعات الإقليمية النامية.

غطرسة الولايات المتحدة وأوربا دفعت العديد من الدول النامية الكبرى والصغرى في أوربا وآسيا وأمريكا اللاتينية إلى تشكيل تجمعات اقتصادية إقليمية للتبادل التجاري.. والحصول على المنافع بعيداً عن سيطرة الشركات الأمريكية والأوربية، فنشأت تجمعات البريكس.. وآسيان.. وميركوسور، وتجمعات صغيرة أخرى، وساهمت هذه التجمعات في دفع عملية التنمية في هذه الدول التي تعد من الناحية البشرية.. والاتساع الجغرافي أسواقاً كبرى أكثر اتساعاً من الأسواق الأمريكية الشمالية والأوربية الغربية. إضافة إلى ارتفاع مساهمة هذه التجمعات في الناتج الإجمالي العالمي والتجارة الدولية، وتطورها التقني الذي ضاهى في العديد من الصناعات، وخاصة الصناعات الإلكترونية، الصناعات الأمريكية والأوربية. لذلك لم يعد مبرراً ربط الاقتصاد السوري بأسواق دول تملي السياسات.. وتتدخل في قرارات الدول المستقلة.. وتضع الخطط الجيوسياسية المدعومة بالقدرات الحربية الهائلة، للسيطرة على المنطقة الأكثر سخونة.. وثراءً في عالمنا.

تجارب ينبغي استلهامها

 كانت القضية المحورية التي وضعت أمام الدول النامية هي تحولها من دول مصدرة للخامات والمحاصيل الزراعية، إلى دول مصدرة للسلع المصنعة و نصف المصنعة، لما يخلقه هذا التحول من قيم مضافة تؤدي إلى زيادة فرص العمل، وتحسين الدخل الاجتماعي، وتطوير الصناعات القائمة وتحويلها إلى صناعات حديثة تعتمد على التكنولوجيا واقتصاد المعرفة. وقد نجحت دول عديدة في آسيا وأمريكا الجنوبية كالهند وفييتنام وإندونيسيا وماليزيا والبرازيل في تحقيق هذا التحول، لكنها لم تصل إلى هذا النجاح إلاّ باتباع سياسة حمائية لفترة زمنية استطاعت خلالها تمكين صناعتها. فهي لم تندفع نحو التحرير المتسرع، وهي لم تهرول باتجاه (الاندماج) في الاقتصاد العالمي الذي تقوده الدول الرأسمالية الكبرى ومنظماتها الدولية، بل مكّنت صناعتها الوطنية، ورفعت قدرتها التنافسية، قبل أن تزيل حواجزها الجمركية. وتؤكد تجارب البلدان الكبرى، الرأسمالية منها والنامية، أن قطاع الصناعة كان العامل الحاسم في تطورها الاقتصادي والاجتماعي، وازدياد تأثيرها في الاقتصاد العالمي، لذلك بات من الضروري لأي بلد يسعى إلى إحداث تنمية شاملة، أن يعتمد في تحقيق مبتغاه على القطاع الصناعي بالدرجة الأولى، فهو المحرك الأساسي لنشاطات اقتصادية أخرى كالتجارة والتسويق والتصدير، والمشغل الأبرز للقوة البشرية الباحثة عن فرص العمل، والميدان الرئيسي للقيمة المضافة التي تعد المكون الأساسي للناتج المحلي الإجمالي، مع الاهتمام ببقية القطاعات الاقتصادية الأخرى، كالزراعة والسياحة والتجارة والإنشاءات.

 ما العمل في المرحلة الراهنة؟

صحيح أن حصة دول الاتحاد الأوربي لا تشكل إلاّ نحو 27% من إجمالي التجارة الخارجية السورية البالغ تريليون و261 مليار ليرة سورية، لكن قرب الأسواق الأوربية، وتاريخية العلاقات السورية الأوربية، جعلت من أوربا شريكاً رئيسياً لقطاعات الإنتاج السورية، ومركزاً مالياً يُسهِّل خدمة رجال الأعمال السوريين، وهذا ما ساعد التحالف الدولي المعادي لسورية على زيادة الضغوط.. وتضييق الحصار على الاقتصاد السوري، مما يتطلب من الحكومة السورية المضي في توجهها-المتأخر كثيراً- المعلن نحو الشرق، بل نحو أي وجهة بعيدة عن الهيمنة الأمريكية والأوربية الغربية. وتأتي الاتفاقيات الموقعة مع روسيا وإيران، تدشيناً رسمياً لهذا التوجه البعيد عن هيمنة الإمبريالية على اقتصادنا، خاصة بعد تصريحات النائب الاقتصادي بعد زيارته الأخيرة إلى روسيا عن شمولية وفوائد الاتفاقيات الروسية- السورية، لاسيما بعد التوقيع على اتفاقية التجارة الحرة مع دول الاتحاد الجمركي التي تشمل روسيا وبيلاروسيا وكازاخستان التي يجري حالياً الإعداد لها.

لقد عرضنا في مقالات سابقة ضرورة دعم الصناعة الوطنية، وخاصة ما كان منها يستخدم الخامات والمواد السورية، لما يمثله ذلك من أهمية لتحويل صادراتنا الريعية التي تعتمد على أسعار عالمية كالنفط، أو على المناخ المناسب كالقمح والمواد الأولية الأخرى، إلى صادرات صناعية تفوق قيمتها المضافة أضعاف قيمتها الأصلية كمادة أولية.ونذكر هنا على سبيل المثال أن تصنيع القطن وتحويله إلى ملابس جاهزة يزيد من قيمته الأصلية 14ضعفاً.

جاء في التقرير الاقتصادي والاجتماعي الذي أقره المؤتمر الحادي عشر للحزب الشيوعي السوري الموحد:

(الكثير من صادراتنا الصناعية ضعيف القيمة المضافة، وهذا يقلص كثيراً من مرونتها. كما أن معظمها يستفيد من دعم حكومي وتدني الأجور وليس من إنتاجية متفوقة تضمن منافسة حقيقية وغير مشوهة. ونقاط الضعف هذه تقلص الريعية الاجتماعية للصادرات الصناعية، حتى وإن حققت للتجار بعض الأرباح. وتبقى القدرة التصديرية للبلاد رهناً بالمواد الخامية التي تتعرض هي الأخرى إلى التناقص كالنفط والحبوب وغيرها).  

لذلك نرى ضرورة التركيز على الاستحقاقات التالية كي يصبح توجهنا الجديد مجدياً.. بل عاملاً مساعداً في لجم حالة الركود الاقتصادي، والانطلاق نحو انتعاش يساهم في تحقيق التنمية الشاملة:

1- دعم الصناعة الوطنية بشقَّيْها العام والخاص، وإزالة العوائق التي تمنعها من منافسة الصناعات الأجنبية، وتخفيض الرسوم الجمركية على مستلزماتها، ودعم أسعار الطاقة المشغلة للصناعة.

2- توجيه الاستثمارات الخاصة المحلية والأجنبية نحو القطاع الصناعي مهما تطلب الأمر من قوانين تشجعها وتحفزها على ذلك.

3-إصلاح القطاع العام الصناعي، وضخ استثمارات جديدة في هياكله الإنتاجية، وتخليصه من الفساد وسوء الإدارة كي يساهم أيضاً في تطوير الصناعة السورية والنشاط التصديري.

4 – دعم الصادرات السورية كي تتمكن من الولوج إلى الأسواق الجديدة.

5- زيادة الاهتمام بالزراعة السورية، ودعمها عن طريق تنفيذ مشاريع الري، ومراكز الأبحاث والإرشاد الزراعي، ودعم أسعار الطاقة اللازمة لري المحاصيل، وإنشاء صناعات تعتمد على المحاصيل الزراعية.

6 – تنفيذ الوعود الحكومية بتطوير المناطق الزراعية، وخاصة المنطقة الشرقية، ومعالجة أسباب هجرة المزارعين للعمل الزراعي والنزوح إلى المدن الكبرى.

7- معالجة هموم الطبقة العاملة والفلاحين وباقي الفئات المنتجة الذين سيقومون بتحقيق هذه الاستحقاقات، وخاصة تناسب دخولهم مع متطلبات الحياة الكريمة.

لكن الاستحقاق الأبرز، الذي يسمح بتنفيذ بقية الاستحقاقات هو حل الأزمة السورية بالاستناد إلى الحلول السياسية، والتي يأتي في طليعتها الدعوة إلى الحوار الوطني الشامل، بمشاركة جميع القوى السياسية وبضمنها المعارضة الوطنية التي رفضت التدخل الخارجي.. والتجييش الطائفي.. وعسكرة النزاع، بهدف الوصول إلى توافق حول مستقبل سورية الديمقراطي.. العلماني، فدون ذلك لن نخلق مناخ الهدوء والاستقرار الملائم لإنعاش اقتصادنا.. وعودة الأمن والأمان لمواطننا.. وللوقوف في وجه مخططات الإمبريالية الأمريكية وحلفائها المعادية لسورية.

العدد 1102 - 03/4/2024