الأمن الغذائي السوري أمجاد غابرة فرطت بها الحكومات المتعاقبة

الأمن الغذائي الذي يتغنى به الجميع، ولاسيما أولئك الذين لم يسهموا مرة واحدة في دعم الوصول إليه، وسبل تحقيقه، هو أمن زراعي بالدرجة الأولى، ويمكن إضافة التصنيع الزراعي إليه، لتكتمل حلقته. ويتبدد الآن الأمن الغذائي نتيجة الإهمال، وعدم الاعتماد على خطط واضحة وقادرة على صون وحماية هذا النهج الذي يقي السوريين جميعاً شر الجوع، والرضوخ لما لا نتمناه إطلاقاً وهو جمع التبرعات لزوم الغذاء.

لايتحقق الأمن الغذائي بالأمنيات فقط، ولايمكن المحافظة عليه بمجرد الاشتراطات، لأنه بحاجة إلى عمل دؤوب، وجهد دائم، وسياسات اقتصادية وتنموية ترتكز في أهدافها وتوجهاتها العامة إليه. وهذا ما لم تتبعه الحكومات المتعاقبة، التي بددت القمح المخزن، ثمرة جهود الفلاحين وتعبهم وعرقهم لسنوات طوال، والتي اتبعت أيضاً سياسات اقتصادية تقف في مضمونها ضد الزراعة والفلاحين، ورفعت الغطاء عنهم، وتركتهم يواجهون قدرهم الأسود القاتل بصدور عارية، وأيدٍ متعبة.

كما أنها ـ أي الحكومات ـ أصدرت القرارات خلافاً للتوجهات العامة المعلنة، فلم تنزل على الفلاحين برداً وسلاماً، بل كانت قادرة على إطلاق رصاصة الرحمة في التوقيت الخطأ، وعلى القطاع الخطأ، وعلى العاملين الخطأ أيضاً. ولايعد تحريك سعر الطاقة، دون وجود آليات تعويضية، إلا أنموذجاً صارخاً للهدف الذي جعل الفلاحين يرفعون الراية البيضاء، رغم أنوفهم، وبغير إرادتهم، لكن بفعل قرارات الحكومات.

هذا المشهد الذي لايدعو إلى التفاؤل، تضافر مع عوامل أخرى في سبيل زيادة الضغوط على الفلاحين والزراعة في آن، ودفع إلى خلخلة أركان الأمن الغذائي، وتركه شعاراً مرفوعاً ليس غير، والانجرار واقعياً خلف الدعوات الكثيرة الرامية للاستعانة بالاستيراد الرخيص الكلفة، بديلاً من منتجات وطنية مرتفعة التكلفة، ولم تسعف صانعو القرار ومتخذوه أي سبل جديدة لقلب المعادلة الخاطئة، بخفض كلفة الإنتاج بالدرجة الأولى، والاستفادة من الميزات التنافسية للمنتج الزراعي السوري على وجه الخصوص. ولا نظلم أحداً، عند طرح أسئلة جوهرية تتعلق بالتقصير في: كيف تحول القمح إلى عبء على وزارة الاقتصاد وصوامعها؟ وكيف غدا القطن مشكلة لوزارتي الزراعة والصناعة في آن؟ وبالمسطرة ذاتها يمكن القياس والتساؤل: عن السبب الحقيقي الذي يؤجل تطبيق الخطط المقترحة المتعلقة بالشمندر السكري زراعة وتصنيعاً؟ وإلى متى ستبقى وزارتا الزراعة والصناعة تماطلان الفلاحين في تحديد وحسم موضوع المرجعية الكاملة المتعلقة بالشمندر بيد أي من هاتين الوزارتين ستكون؟ وإلى متى سيبقى محصول زيت الزيتون عبئاً على المنتج الحقيقي؟ وكذلك منتجي الخضار والفواكه؟

الأمن الغذائي بات تحت الخطر، نتيجة إصرار الحكومات على عدم التوسع باستصلاح الأراضي، وترك حبل الزراعة على غارب الاعتماد على المطر وما تجود به السماء، أدى أيضاً إلى تضييق الخناق على الزراعة. إذ لم تعد الزراعة البعلية ذات جدوى اقتصادية في سورية، فسنوات الجفاف المتتالية، وتقصير الحكومات المتعاقبة  في متابعة مشروع الري الحديث، وإيجاد الأسباب الموضوعية لنجاحه وتعميمه على البلاد، ساهم مع جملة أسباب أخرى إلى هجر الفلاحين لأراضيهم. وتشير أرقام المكتب المركزي للإحصاء أن المساحة المحولة للري الحديث بلغت 214 ألف هكتار عام 2002 في حين لم تتجاوز المساحة 298 ألف هكتار عام 2010 من إجمالي المساحة المروية البالغة 1.300 مليون هكتار. في الوقت الذي يؤكد فيه الخبراء أنه لو طبق التحول للري الحديث لكانت المساحة المروية زادت بنسبة 50% على الأقل من كمية المياه المستخدمة نفسها. كما أن تخفيض اعتمادات صندوق دعم الإنتاج الزراعي أدى إلى تفريغ هذا الصندوق من مضمونه، وتكبيله بقلة السيولة بغية عدم تمكينه من ممارسة دوره. ولايختلف واقع الزراعة عن واقع التصنيع الزراعي، العامة الأساسية الثانية للأمن الغذائي، وما يثير الحزن والتساؤل أن تسهم شركة واحدة بنصف أرباح المؤسسة العامة للصناعات الغذائية، في وقت يحظى تصنيع المنتجات الغذائية من القطاع الزراعي بشقيه النباتي والحيواني بالرواج والأهمية عالمياً، إلا أن بعض مؤسساتنا تقلب القواعد الثابتة، ومنها مثلاً شريك الماء الذي لايخسر لدينا خاسر.

المحافظة على الأمن الغذائي ليس قراراً يتخذ وينتهي الأمر، إنه قبل كل شيء سياسات، وخطط وبرامج، لابد من العمل على تطبيقها، وتأمين مستلزماتها، وخلق الظروف الموضوعية الكفيلة في نهاية المطاف لتحقيق هذا الأمن. في وقت بدا واضحاً أن خروج المنتجين الحقيقيين وعزوفهم عن زراعة أراضيهم يسبب كارثة للاقتصاد الوطني، وذلك في الظروف الطبيعية، وليس الاستثنائية كالتي نعيشها حالياً.

العدد 1140 - 22/01/2025